مرايا –
ينسب للشاعر الألماني غوته قوله إن الشعر العظيم هو شعر المناسبات، وربما قال ذلك بعد تجربته الأدبية التي تأثر فيها بالشعر العربي، كما أشار في كتابه “الديوان الشرقي للمؤلف الغربي”.
تاريخيا كان الشعر العربي متفاعلا مع المناسبات الاجتماعية والدينية منذ عصوره المبكرة، وتنوعت قصائد الشعراء وأغراضها في العيد لتشمل التهنئة والمدح والوصف والبكاء على الأطلال.
كما تنوعت من الاستبشار بالهلال للشكوى وندب الحال ليصبح عيدي الفطر والأضحى مواسم الأفراح والأحزان معا بالنسبة للشعراء العرب.وتمثل المناسبات طفرة أدبية للشعراء وتحفز خيالهم لتخليدها شعريا، فالأديب جزء من مجتمعه ويصور المناسبات بلغته الشعرية وخياله الذي لا ينضب.
ورغم اختلاف النقاد حول “أدب المناسبات” لم تنضب قريحة الشعراء وحفظت “ذاكرة العرب” قصائد الأعياد في القديم والحديث.
وقبل الإسلام عرف العرب أعياداً ومناسبات كتب عنها شعراء الجاهلية، منهم تأبط شراً والنابغة الذبياني وعثمان بن الحويرث وحتى حسان بن ثابت قبل إسلامه.
المديح والحكمة
وجد بعض الشعراء في الأعياد مناسبة لتدبيج القصائد في مديح الأمراء، ومنهم الشاعر الأهوازي شهاب الدين بن معتوق الذي كتب مديحا في إحدى قصائد ديوانه الذي جمعه ابنه من بعده، قائلاً:
ليهنكَ بعدَ صومكَ عيدُ فطرٍ
يريكَ بقلبِ حاسدكَ انفطارا
أتاكَ وفوقَ غرَّتهِ هلالٌ
إذا قابلتهُ خجلًا توارى
يشيرُ وعادَ نحوكَ كلَّ عامٍ
يحدِّدُ فيكَ عهداَ وازديارا
ووجد الشاعر ابن رشيق القيرواني -الذي ولد في المسيلة ورحل إلى القيروان وصقلية في غياب المعز بن باديس سلطان الزيريين في أفريقية والقيروان- فرصة للتعبير عن شوقه للأمير الغائب الذي حكم 47 سنة، فقال:
تجهم العيد وانهلت بوادره وكنت أعهد منه البشر والضحكا
كأنه جاء يطوي الأرض من بعد شوقًا إليك فلما لم يجدك بكى
ويروى عن الشاعر العباسي أشجع بن عمر السلمي أنه كتب إلى الخليفة هارون الرشيد أبياتاً تتراوح بين المدح والتهنئة في أحد الأعياد، قائلاً:
لا زلتَ تَنشُر أعياداً وتَطْوِيها
تَمْضِي بها لكَ أيام وتَثْنِيها
مُستَقبِلاً زِينةَ الدُّنيا وبَهْجَتها
أيامنا لك لا تَفْنَى وتُفْنِيها
ولا تَقضَّت بك الدُّنيا ولا بَرِحَتْ
يَطْوِي لك الدَّهرُ أياماً وتَطوِيها
ولْيَهْنِكَ الفتحُ والأيّام مُقبِلةٌ
إليكَ بالنصر مَعقوداً نواصِيها
وكتب بعض الشعراء أبياتاً من قصائد الحكمة والموعظة ومنهم البحتري الذي قال عن مقدم عيد الفطر بعد رمضان:
مضى الشهر محموداً ولو قال مخبراً
لأثنى بما أوليت أيامه الشهر
عصمت بتقوى الله والورع الذي
أتيت فلا لغو لديك ولا هجر
وقدمت سعياً صالحاً لك ذخره
وكل الذي قدمت من صالح ذخر
وحال عليك الحول بالقطر مقبلاً
فباليمن والإقبال قابلك الفطر
وكتب ابن الرومي الشاعر العباسي المشهور بأدبه المميز أبياتاً جميلة يمزج فيها بين المدح والتهنئة بالعيد، قائلاً:
وَلَمَّا اِنْقَضَى شَهْرُ الصِّيَامِ بِفَضْلِهِ
يُحْكَى هَلَاَلُ الْعِيدِ مِنْ جَانِبِ الْغَرْبِ
كَحَاجِبِ شَيْخِ شَاب مَنْ طُولِ عَمْرِهِ
يُشِيرُ لَنَا بِالرَّمْزِ لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ
قَدْ مَضَى الصَّوْمُ صَاحِبًا مَحْمُودًا
وَأَتَى الْفُطْرُ صَاحِبًا مودودا
ذَهَبَ الصَّوْم وَهُوَ يَحْكِيكَ نُسْكَا
وَأَتَى الْفُطْرُ وَهُوَ يَحْكِيكَ جُودَا
وفي قصيدة أخرى سبق ابن الرومي لمعنى صار متكررا من بعده، فقال:
لِلنَّاسِ عِيدٌ وَلِي عِيدَان فِي الْعِيدِ
إِذَا رَأَيْتُكَ يَا بْن السَّادَةِ الصِّيدِ
إِذَا هم عَيَّدُوا عِيدَيْنِ فِي سَنَةٍ
كَانَتْ بِوَجْهِكَ لِي أيَّامُ تعييدِ
وبنفس معنى ابن الرومي، تكلم شاعر عباسي بغدادي يرجح أن يكون أبو إسحاق الصابي بأبيات بديعة مقابلاً بين وجه الممدوح ومقدم العيد، فقال:
رَأَى الْعِيدُ وَجهكَ عِيدًا لَهُ
وَإِنْ كَانَ زَادَ عَلِيه جَمَالًا
وَكَبَّرَ حِينَ رَآك الْهَلَاَل
كَفِعْلِكَ حِينَ رَأَيْت الْهِلَالَا
رَأَى مِنْكَ مَا مِنْهُ أَبْصَرتهُ
هلَاَلًا أَضَاءَ وُجوها تلالا
الحزن والشكوى
لم يخل الشعر العربي من الحزن، وليس شعر الأعياد والمناسبات استثناء، فبخلاف رهافة حس الشاعر يكون شعور الإنسان بالألم والحزن مضاعفا في العيد أحيانا، إذ يقارن الشاعر بين ما يفترض أن يكون عليه من فرحة واستبشار بالعيد وبين ما يعيشه من غربة أو فراق وفقد أو حرمان وضيق حال يدفعه للشكوى وسكب الدموع على الأبيات الشعرية.
وكتب المتنبي قصيدته الشهيرة يهجو فيها حاكم مصر كافور الإخشيدي أثناء هروبه إلى الشام ليلة عيد الأضحى بمنتصف القرن الرابع الهجري، واستفتحها قائلاً:
عيدٌ بأيّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ بمَا مَضَى أمْ بأمْرٍ فيكَ تجْديدُ
أمّا الأحِبّةُ فالبَيْداءُ دونَهُمُ فَلَيتَ دونَكَ بِيداً دونَهَا بِيدُ
لَوْلا العُلى لم تجُبْ بي ما أجوبُ بهَا وَجْنَاءُ حَرْف وَلا جَرْداءُ قَيْدودُ
وَكَانَ أطيَبَ مِنْ سَيفي مُعانَقَةً أشْبَاهُ رَوْنَقِهِ الغِيدُ الأمَاليدُ
لم يَترُكِ الدّهْرُ مِنْ قَلبي وَلا كبدي شَيْئاً تُتَيّمُهُ عَينٌ وَلا جِيدُ
ويمضي الشاعر في قصيدته التي تمتلئ بهموم وأحزان العيد شاكياً مما صار عليه حاله السيئ بعد أن حالت الصحراء بينه وبين أحبابه وآماله وطموحاته.
لكنه يعترف أن طموحه وسعيه للمجد هو ما فرض عليه امتطاء الصعاب وركوب الصحراء وترك النساء الجميلات لتحقيق آماله العريضة في الحياة، سائلاً صاحبيه على عادة شعراء الجاهلية “يا سَاقِيَيَّ أخَمْرٌ في كُؤوسكُما أمْ في كُؤوسِكُمَا هَمٌّ وَتَسهيدُ”
ويسترسل المتنبي ليذكر ما آل إليه حاله إذ أصبح جماداً بلا مشاعر ولم يعد يطرب بالغناء، وهجا كافور وعيّره بلونه وسوء خلقه، ولكن يمتدح سيفَ الدولة الحمداني قائلاً:
هَنيئاً لَكَ العيدُ الَّذي أَنتَ عيدُهُ
وَعيدٌ لِمَن سَمّى وَضَحّى وَعَيَّدا
وَلا زالَتِ الأَعيادُ لُبسَكَ بَعدَهُ
تُسَلِّمُ مَخروقًا وَتُعطي مُجدَّدا
فَذا اليَومُ في الأَيّامِ مِثلُكَ في الوَرى
كَما كُنتَ فيهِم أَوحَدًا كانَ أَوحَدَ
ومثله اشتكى الأمير الشاعر المعتمدُ بن عباد بعد خروجه عن سلطانه وبلاده ومعاناته شظف العيش بعد عز السلطان وغناه، فقد انتهى به الحال مع زوجه وبناته منفياً طريداً في أغمات المغربية بعد أن كان أميراً أندلسياً، فتكلم مخاطباً نفسه بأبيات ملؤها الشكوى مقارناً بين حاضره المهين وماضيه العزيز قائلاً:
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا وكان عيدك باللّذات معمورا
وكنت تحسب أن العيد مسعدةٌ فساءك العيد في أغمات مأسورا
ترى بناتك في الأطمار جائعةً في لبسهنّ رأيت الفقر مسطورا
معاشهنّ بعيد العــزّ ممتهنٌ يغـزلن للناس لا يملكن قطميرا
أفطرت في العيد لا عادت إساءتُه ولست يا عيدُ مني اليوم معذورا
وكنت تحسب أن الفطر مُبتَهَـجٌ فعاد فطرك للأكبــاد تفطيرا
ويقول بعض النقاد إن الشعر العربي غالبا ما كان وليد المناسبة، وكأن “شيطان الشعر” ينتظر انتهاء شهر رمضان ليتنزل على الشعراء بوحيه وإلهامه، فيكتبون قصائد العيد ويضفون على المناسبة ثوب الخيال وعباءة الأدب، فيتمايل الناس طربا بموسيقى الشعر رغم أن الشاعر قد يكون كتب قصيدته بدافع من الحنين والأنين والشكوى.
ورغم ما يأخذه بعض النقاد على شعر المناسبات كونه لا يصدر عن عاطفة صادقة -بحسب رأيهم- فقد كتبت أغلب معلقات الشعر لمناسبات خاصة.
فقد أملت المناسبات على الشاعر أحاسيس استثنائية دفعته للترنم بقصيدته في مكانها وزمانها الخاص، فهو بذلك ليس شعرا زائفا مفتعلاً بل هي رقة في الإحساس وفيض من الإلهام الأدبي البديع.