مرايا – حذر رئيس الوزراء الأسبق طاهر المصري من قراري وضم إسرائيل للمستوطنات في الضفة الغربية وضم الأغوار.
وقال المصري في مقال نشره في يومية “الرأي” في عددها الصادر يوم الخميس، إن هذه القرارات ستغير وجه المشرق والمغرب العربيين استراتيجيّاً، لحقبة تاريخية طويلة قادمة.
وتالياً نص مقال المصري:
(في أجواء قلق ومخاوف يعيشها الأردنييون، نتيجة لظروف معيشية صعبة، وغير مسبوقة، فإنّ تداعيات إجراءات إسرائيل بضم مستوطنات الضفة الغربية، وجعل القدس الكبرى عاصمة إسرائيل، وضم غور وادي الأردن الفلسطيني في الشمال، وهضبة الجولان السورية، تأتي كتطورات خطيرة للغاية. ما يجعل الأردنيين، كل الأردنيين، يتحسّسون الخطر على كيانهم وهويتهم ومستقبلهم وثقافتهم. وما يفرض علينا جميعاً الوقوف سداً منيعاً، ويداً واحدة، في مواجهة ما هو قادم من مشروع صهيونيّ، أكلَ بالفعل الثورَ الأبيضَ، ويستعدّ بنَهمٍ لالتهامِ الثورِ الأسود..! ذلك أنّ أي انقسام جهوي، أو غيره، في المجتمع الأردني، سوف يجعلنا لقمة سهلة في يد المشروع الصهيوني الموجه لشرق نهر، باعتباره جزءاً من وعد بلفورهم العتيد. وهو أمر تسعى إليه إسرائيل والمسيحيون الصهاينة، بانتظار أن يكملوا الإطباق على فلسطين التاريخية، ليقوموا بتنفيذ الشق الأردني من مشروعهم) .
هُم وَحدَهم مَن يتحمّلون مسؤولية ومغامرة إفساد مفهوم (الأرض مقابل السلام)، الذي كان أساسَ تسويتَي مدريد، في الجانبين الأردنيّ والفلسطينيّ، المتداخلين عضويّاً. فلَا (أرضاً) أبقوا، ولَا (سَلاماً) حفظِوا، أو صَانوا، أو سَعوا إلى تَكريسه وتطويره وصناعته..!؟
فإغلاقُ الحدود على الفلسطينيين، وتقويض أسس تسوية الصراع، وإغلاق الآفاق في تحرّر الفلسطينيين وانعتاقهم، بتكوين دولتهم المستقلّة، هو في الجوهر إلغاء لكلّ مبادئ ومضامين التسويات التي حدثت في المنطقة، من كامب ديفيد إلى وادي عربة، مرورا بأوسلوا. وعلى الطرف الإسرائيلي، ومَن يسانده، أن يتحمّل وِزرَ وجريرةَ الهاوية والجحيم، الذي تندفع إليه المنطقة..!
ونحن في هذا الوطن العربيّ الأردنيّ؛ حيث أنّنا شركاء أساسيين في الجزء الخاص بالتسوية النهائية، بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ويَعنينا بنفس الدرجة التي تَعني الفلسطينيين أنفسهم، لأنّها مرتبطة بمصيرنا ووجودنا؛ وبعيداً عن أيّ وهم، فإنّني أسمح لنفسي بالقول:
إنّ القرار الإسرائيلي الأخير، بالبدء بضمّ الأغوار الفلسطينية إلى دولة العدوان الإسرائيلي، وكذلك تصريح وزير الخارجية الأميركي الأخير بومبيو، باعتبار أنّ قرار ضم إسرائيل للمستوطنات في الضفة الغربية مسألة لا تتعارض مع القانون الدولي..!، هذان القراران، إذا قُيِضَ لهما أن يتمّا، وأن يكتمل تطبيقهما على الأرض، فإنني أقول: إنّ ذلك سيغيّر وجه المشرق والمغرب العربيين، استراتيجيّاً، لحقبة تاريخية طويلة قادمة؛ كما أنهما، وبصرف النظر عن كارثيتهما للفلسطينيين ومستقبل قضيتهم، يَعنيان ليس فقط قطع التواصل البرّيّ المباشر والكامل مع ما تبقّى من الأراضي الفلسطينية، ومستقبل الوجود العربي فيها فحسب، بل قطع التواصل البرّي الوحيد والممكن، بين عرب المشرق في آسيا، وبين عرب المغرب في إفريقيا؛ بعد أنّ عطّل قيام دولة إسرائيل في العام 1948 ذلك التواصل عبر أرض فلسطين التاريخيّة. فإعلان بومبيو الأخير، جاء تتويجاً للإجراءات الإسرائيلية، التي تستهدف تهويد الأرض والتغلّب على مشكة الديموغرافيا، التي سارت تاريخيّاً لصالح العرب الفلسطينين.
وهنا أسأل: ألَيست تلك الخطوة المزدوجة هي أخطر، في جوهرها، من تضمين وعد بلفور لصكّ الانتداب البريطاني على فلسطين وشرق الأردن، في مطلع عشرينيات القرن العشرين، ومن الثلاثين عاماً، التي استغرقتها بريطانيا (1918_1948 ،(في صناعة نواة الوطن القومي اليهودي في فلسطين..؟ فذلك الوعد المشؤوم (1917) ،وكذلك قرار التقسيم (1947) وما تمّ تقديمه بينهما من مشاريع تسويات، لم تكن تتضمّن قطع ذلك التواصل البرّي بين شَقّي الوطن العربي، حيث بقيت مقترحات إقامة ذلك الوطن اليهودي محصورةً في أجزاء وجغرافية فلسطين الشمالية والغربية، ناهيك عن التخليص المبكّر للمنطقة العربية الواقعة إلى الشرق من نهر الأردن من أن يشملها وعد بلفور.
واليوم، برأيي، إنّ كلّ حقائق السياسة، التي تمّ فرضها قسراً على بلادنا والمنطقة، تقضي بضرورة إعادة تعريف المفاهيم السياسية، التي استخدمناها ونستخدمها، في توصيف حياتنا وأحوالنا الكارثية العربية، وخصوصاً في المضامين الفاصلة بين مفهومي (التسوية) و(السلام)، بل وإعادة تقييم مسيرتنا وقراراتنا، حيث أخطأنا وحيث أصبنا. ذلك أنّ التسويات تُعقد، في كلّ الأزمنة، بين الأعداء والخصوم، فمنها ما ينجح في تحويل الأعداء إلى أصدقاء، إذا تمّ تطويرها كأساس لمعالجة جذور الأزمات على نحو منصف نسبياً، فتتحوّل عندها (التسوية بين أعداء) إلى (سلام بين أصدقاء). ومنها ما يفشل، من تلقاء نفسه، إذا لم ينجح الطرفان بتطوير (التسوية الأولية) بينهما إلى (سلام)، من خلال التدليس على النفس وعلى الآخر، بترويج تلك (التسوية الأولية) على أنّها هي (السلام المنشود)..! أليسَ هذا ما فعله الطرف الإسرائيلي بمعاهدة وادي عربة.
كما أتساءل أيضاً: ألم تستعمل إسرائيل عبر خمسين عاماً من الاحتلال كل أنواع التعذيب والتشريد، ومخالفة حقوق الإنسان بشكل فاضح، واستعملت كل أنواع السلاح وحتى الإبادة الجماعية، وخالفت ورفضت كل قرارات الأمم المتحدة بكافة إداراتها، وأنشأت كل أدوات وعناصر وسياسات الإذلال والترهيب للعرب..؟! إنّ أرقام انتهاكات إسرائيل في كل مجال هي أرقام مذهلة. ومع ذلك لم تقدم أيّ دولة طلباً واحداً للجمعية العامة لمحاسبة إسرائيل، على أساس من شرعة الأمم المتحدة، ولم يجرؤ أحدٌ على استخدام الفصل السابع في فرض أي عقوبات عليها.
والوقائع تقول: إنّ إسرائيل نفسها هي التي جعلت من التسويات الأولية، التي عقدتها مع أعدائها، تسويات فاشلة، وكَسيحة، وعاجزة عن الارتقاء إلى مرتبة (سلام حقيقي) بين الشعوب والدول، حيث ظلّ الأعداءُ أعداءً في الجوهر، ومتصالحين باتفاقيات تسوية في الظاهر، ومن دون القدرة على الارتقاء إلى علاقات سلام طبيعية، دولاً وشعوباً، ولهذا أسباب كثيرة يكمن جوهرها في طبيعة المشروع الصهيونيّ التوسّعية والإلغائية، ونَهمهِ المتواصل؛ والمستقرّ في أذهان الناس في الشعار العتيد: (أرضُكِ يا إسرائيلُ من الفرات إلى النيل)..!
والحقُّ أقول: إنّه حين اتخذت حكومتي (1991 ،(وبتوجيه من الراحل الملك الحسين، قرارَ الموافقةِ على الذهاب إلى مفاوضات تسوية مدريد، في خريف ذلك العام، حيث اُتِّخذَ القرارُ بشكل مؤسّسيّ وديمقراطيّ؛ حينها كانت أحوال الأردن المنطقة في أسوأ مراحلهما، انقساماً واختلافاً وتشظّياً، عشية حرب الخليج الثانية؛ وكنّا نعرف، في مجلس الوزراء، وعلى الرغم من أن ذلك القرار كان مخرجاً للأردن من عنق زجاجة إقليميّ ودوليّ، أننا ذاهبون إلى خطوة في مسار على طريق تسوية قد تكون مجحفة، بحكم موازين القوى آنذاك، آملين في تطوير تلك التسوية إلى فرصة لصناعة السلام، ولكنّها، للأسف، لم تكن.
وربما لن تكون، بسبب تبجّح وغرور ونَهم دولة العدوان والاحتلال الإسرائيلي.