مرايا -كتب :د. محمد أبو رمان – يجادل سياسي أردني معروف، عدنان أبو عودة، بأنّ السؤال لم يعد عما إذا كان هنالك صفقة قرن (خطة الإدارة الأميركية للتسوية السلمية في الشرق الأوسط)، أم لا؟ لأنّها مع الإدارة الحالية تشهد تطوّراً متسارعاً غير مسبوق. بدايةً من اعتراف الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بالقدس عاصمة لإسرائيل، ولاحقاً اعتبار المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية شرعية، مروراً بما يتم تداوله عن حقّ إسرائيل في السيطرة على الحدود وعلى ضم غور الأردن، بينما لم يعد حق العودة قائماً عملياً (بمعنى: لا حدود، ولا عاصمة، ولا أراضٍ، ولا عودة لاجئين)؛ فماذا بقي من ملفات الحلّ النهائي، أو ما يسمى حلّ الدولتين؟
ليست هذه النتيجة خاصة بأبو عودة، فمن يتابع خطابات الملك، ويرصد حديث الصالونات يدرك تماماً أنّ عمّان لم يعد لديها أي “وهم” اتجاه إمكانية حلّ الدولتين، ولا في مدى تطبيق صفقة القرن، إنّما أصبح السؤال الملحّ اليوم: ماذا تعني نهاية حل الدولتين للأردن؟ وما هي خطورة صفقة القرن على الأمن الوطني الأردني، وتداعياتها على الصعيدين، الداخلي والخارجي؟
ثمّة رأي “شبه رسمي” سابق كان يرى أنّه على الرغم من أنّ المصلحة الوطنية الأردنية العليا تتمثّل في إقامة الدولة الفلسطينية (على حدود الـ67)، إلا أنّ الطرف المعني، بدرجة رئيسة، بصفقة القرن، هي السلطة الفلسطينية، وليس الأردن، فلا داعي لخوض معارك دونكيشوتية مع الإدارة الأميركية التي تمثّل اليوم الداعم المالي والاقتصادي الأكبر للأردن؟
وفقاً لهذا الرأي “المحافظ سياسياً” فلا يوجد داعٍ لمخاوف مبالغة من إمكانية “الوطن البديل” (أي إقامة دولة لسطينية في الأردن)، طالما أنّ الملك ومعه السلطة الفلسطينية أعلنوا مراراً وتكراراً رفضهم المطلق هذا الخيار، أو ما يسمّى الكونفدرالية قبل إقامة الدولة الفلسطينية في الأردن.
على الطرف المقابل، ترتفع في عمّان وتيرة حقيقية من القلق، لدى مثقفين وسياسيين، من مجمل التحولات والمتغيرات التي قد تضعف من وجاهة الرأي الأول، وتدعو إلى التفكير مليّاً بإعادة تعريف الأمن الوطني الأردني، ومصادر التهديد والمصالح الاستراتيجية، وبما يطلق عليه المحلل السياسي، عريب الرنتاوي، المرحلة الثانية (phase 2) من “صفقة القرن”، وهي على حساب الأردن، أو العودة إلى ما يسمّى الخيار الأردني لحل القضية الفلسطينية.
الخيار الأردني هذه المرّة لن يكون إعادة الأردن إلى الضفة الغربية، بل حل مشكلة السكان على حساب الأردن، واستبدال (الحكم الذاتي +) بالدولة الفلسطينية، وهو خيارٌ لا يوجد بديل له (واقعياً) إذا تم بالفعل وأد حل الدولتين وإقامة الدولة الفلسطينية، فإنّ الأردن سيكون هو الطرف الذي سيتحمل عبء التعامل مع الكتل السكانية.
ومن جهةٍ أخرى، هنالك اليوم قرابة مليون لاجئ فلسطيني في الأردن لا يملكون الجنسية الأردنية، سيضطر الأردن، عاجلاً أم آجلاً، في ضوء ما يحدث أن يتعامل معهم بمنظور قانوني مختلف، فضلاً عن وجود نسبة مئوية من السكان كبيرة من أصول فلسطينية، ما يعني عملياً وواقعياً نقل “الكرة الملتهبة” من الأراضي المحتلة في الضفة الغربية إلى الأردن.
ربما يقلل بعض السياسيين من وطأة هذه التداعيات والاحتمالات، ويردّد بأنّ التخويف من الوطن البديل على الأردن أصبح فزّاعة معروفة في كل مرّة، لكن وضع متغيرات استراتيجية بالحسبان سيجعل من هذا “التحفظ” موضع سؤال واستفهام.
على الرغم من أنّ فزّاعة الوطن البديل استخدمت دوماً لممانعة الإصلاح السياسي والديمقراطية، أو لتغليب الهواجس على الطموحات، فإنّ ما قامت به الإدارة الأميركية الحالية غير مسبوق، فهي عملياً توشك على إنهاء ملفات القضية الفلسطينية كافّة، ما يعني أنّ المساحات السابقة للمناورة والتفاوض لن تبقى موجودة.
ثانياً، يترتب على ذلك ما تسميه الإدارة الأميركية “الحل الإقليمي”، الذي يعني استدخال دول عربية خليجية في التسوية، لتوفير الغطاء العربي اللازم، ويتزاوج مع ذلك الانهيار الكامل في النظام الإقليمي العربي، وتراجع دور العراق وسورية ومصر التي مثّلت تاريخياً لاعباً مهماً في القضية الفلسطينية، ما يعني أن الفرصة سانحة اليوم أمام الإدارة الأميركية وإسرائيل للضغط على الفلسطينيين والأردن للقبول بما يحدث، وإن لم يكن رسمياً فواقعياً.
ثالثاً، التراجع الملحوظ أيضاً بأهمية الدور الجيو استراتيجي الأردني، في نظر الحلفاء وحتى الخصوم، فاستقرار النظام الأردني، بالنسبة لإسرائيلي، كان دوماً بمثابة مسألة أمن قومي، وكذلك الحال “دولة عازلة”، بالنسبة للعرب كان الأردن مفتاح العلاقة مع الإدارات الأميركية، أمّا اليوم فالجسور باتت مفتوحة بين الطرفين من دون الحاجة إلى المرور عبر “بوابة النظام الأردني”.
رابعاً، تزايد ضغط المشكلة السكانية على إسرائيل، والحاجة إلى حلول بديلة، وضعف اليسار الإسرائيلي مقابل عودة الأصوات اليمينية هناك للحديث الصريح عن الخيار الأردني، بل حتى في استبدال النظام الأردني الذي أصبح، بالنسبة لهم، مزعجاً، كما يرصد بعض كتّاب صحيفة هآرتس الإسرائيلية التحولات التي تحدث تجاه النظرة إلى الأردن.
مثل هذه التحولات والمتغيرات المرافقة لصفقة القرن تعيد صوغ الوضع الاستراتيجي الأردني بالكلية، وتتحكّم بالموقف الأردني تجاه صفقة القرن، لكن السؤال: إلى أي مدى يمكن للأردن المضي قدماً لتفكيك الصفقة والضغط ضدها؟ ضمن المعادلة الاقتصادية الداخلية القاسية؟ والانهيار الاستراتيجي العربي؟ والحالة الفلسطينية؟ كما يجادل سياسيون أردنيون؟
بمعنى مسألة تبديل التحالفات والانتقال إلى مربعات استراتيجية غير تقليدية، قد تكون غير واردة لدى “مطبخ القرار” في عمّان، وممانعة صفقة القرن ستكون رسمياً، وعلنياً، لكن الخشية لدى الأردنيين هي تمرير الصفقة عملياً وواقعياً وبالتدريج، وهو سيناريو الأمر الواقع، الأكثر خطورة على الأمن الوطني الأردني.
العربي الجديد