مرايا – كتب رئيس الوزراء الأسبق هاني الملقي:
وسع الأردن كل من قصده من العرب منذ الثورة العربية الكبرى وعرف القاصي قبل الداني هنات شعب الأردن وفطنته وعمق وعيه وثقافته منذ تأسيس إمارة الشرق العربي مروراً بإمارة شرق الأردن وحتى يومنا هذا. ولم يدر بخلدي منذ نعومة أظفاري أن الانطباع التصوري قد ينقلب إلى قناعة واقعية في صفوف شعب هذه خصائصه وهناته.
ولشدما كانت دهشتي واستمرارها لما لاحظته عبر سنوات هذا القرن مما تولد بين ظهرانينا من قناعات أصولها انطباعات هي في حقيقتها خاطئة وفي معلومات مغلوطة بدأ بثها بشائبة الخطأ المقصود ثم ما لبثت أن كبُر مستواها وتضخم حجمها كما كرة الثلج مع فارق السوء في المحتوى وأكثر منه في المكنون. وتكررت هذه الظاهرة حتى أفردت إحدى صحفنا اليومية زاوية لرصد الإشاعات التي تحمل تلك الانطباعات.
ولا يخفى على كل ذي فطنة وبصيرة ما لانتشار هذه الظواهر من تأثيرات سلبية على ثقتنا بأنفسنا وقدراتنا على النمو ورفع مستوى المعيشة وتعظيم الاستثمار والاعتماد على الذات التي تميز بها شعبنا. فهي، أي هذه الظواهر، عملت على بذر الشكوك في كل ما نقوم به كشعب وكحكومات بغية تحقيق الأمن والأمان والعزة للوطن، وضرب قواعد قوتنا وطرق إمدادنا ونصرتنا.
ولا يضيرنا تفحص ما بات مادة تشي بتحول لدى العامة عن الهنات التي عُرفنا بها لقرن من الزمان أو يزيد. إذ ما أن تلج الدولة مساراً يبتغي تحقيق الصالح العام حتى تنطلق الإشاعة من مصادرها. ومن هذه المصادر البعض من مجموعة المصالح الذاتية تبتغي حماية ما لديها من مكاسب ضيقة على حساب العوام، ثم ينتقلون إلى التحريض عليه وعلى أهدافه البناءة بغية إيقافه وإفشاله. ولا تتوانى الجهات الراصدة لمجتمعنا والهادفة إلى إضعافنا عن التنديد بما هو بنّاء وجديد بالقول إن المجهود هذا ينوي بيع أصول الدولة أو أن ثروة الأجيال في خطر أو أن الدافع له هو الفساد بعينه وكأنما هم من الفساد براء!
ومن بنات أفكار هذه المجموعات التي تنخر في جسم الوطن وعقله مصطلحٌ وليد هو «حكومة الجباية» وكأن الحكومة، أي حكومة في أي بلد، تقوى على أداء واجباتها دون جباية ما يستحق للمجتمع من أموال تفرض على المكلفين بموجب قوانين تقترحها الحكومة ويناقشها مجلس الأمة وتتخذ مجراها للتطبيق. وإنما يقصدون من المصطلح الوليد الإيهام بأن أداء الحكومة يمكن أن يكون دون توفيرأكلاف ذلك الأداء. وتوفر حكومات البلدان المستقلة تلك الأكلاف من الضرائب بمختلف أنواعها ومن استثمار ما قد يفيض في ميزانياتها عن حاجاتها التشغيلية والرأسمالية ولوازم الدفاع.
وقد يتسبب التشويش على الحكومات وإثارة الجماهير عليها في لجوء المسؤولين إلى ممالأة الانطباعات الخاطئة ومسايرة أصحاب المصالح الخاصة والمستجيبين لهم من المتظاهرين، وقد ينتج عن كل ذلك حصاد الشعبية للمسؤولين وضرر يلحق بالمصلحة العامة لا يمكن تبرير دوافعه.
يتذاكى هذا التشويش المقصود لإفشال جهود الدولة في المضي قدماً لتحقيق أهدافها. إلا أن هنالك البعض من مجموعات المصالح الخاصة التي لا تتوانى عن وضع العصي في الدواليب كي تحمي مصالحها الضيقة. وهي بالتأكيد شريكة في إفشال الحكومات وصدها عن تحقيق أهدافها بتحشيد الجماهير ضد جهود الحكومة. والأمثلة قابلة للحصر في مناسبات تكميلية لما نحن الآن بصدده. ويمكن الإشارة في هذا المجال إلى أن قانون ضريبة الدخل الحالي ما كان له أن يشهد النور لولا أن تم تقليص الضريبة على أرباح تلك المجموعات، على حساب دخول الطبقة الوسطى التي زيدت ضرائبها.
ولا جدال في أن تخفيض الضرائب ممكنٌ بزيادة كفاءة التحصيل الضريبي وبتخفيض موازٍ في حجم الموازنة العامة وبنودها بما في ذلك مجموع الرواتب والأجور في القطاع العام، وإخضاع كافة المؤسسات العامة بما فيها المستقلة لنظام الخدمة المدنية. ويتأتى ذلك بترشيق الجهاز الحكومي واستعمال ما يوفره الترشيق في تحسين أوضاع الموظفين ويتحقق بذلك النمو مع تخفيض موازٍ في الضرائب. ويتطلب كل ذلك وقتاً لا بأس به من العمل المخلص الدؤوب.
ورب مستغرب مداخلتي هذه يسأل: ولِمَ صمتُك الطويل ولماذا تثير نقاطك الآن؟ وما الهدف الذي لديك؟ وأجيب:
أولاً: إن الساكت عن الحق شيطانٌ أخرس، ولم أكن في يوم من الأيام أخش قول الحق ولا أن أتحمل كلفه سيّما وأن لدي هدفاً سامٍ هو الدفاع عن الصالح العام وعن الوطن، شعبِهِ وقيادته، وهو هدف لا يعيره أصحاب المصالح الذاتية الضيقة أيَّ انتباه، وهم أنفسهم سيطلقون لا ريب إشاعات التشكيك في هدفي هذا، وقد يكيلون لي كل ما هو ليس فيّ كي يسوّقوا بضاعتهم. وفوق كل ذلك أقول: «الله من وراء القصد»، وستشهد الأيام القادمة أيّنا ذو القصد السوي.
ثانياً: يواجهنا في وقتنا الحالي تحدٍ مصيريٌ شاملة أبعاده من سياسية واقتصادية واجتماعية، وهو ليس كأي تحدٍ مر به جيلي ومن تلاه، ولم يمر وطننا قبلُ بمثله، مما يتوجب على الأردنيين جميعاً وضع الثقة بقيادتهم الهاشمية ووضع وعيهم وهممهم وتضحياتهم تحت تصرفها كي نخرج من المآزق كما عودتنا بالغنم والسلامة رافعين هاماتنا عاليا. كما يتوجب على الأردنيين جميعاً أن يستندوا في تحليلاتهم واجتهاداتهم إلى الحقائق ولا إلى شيء سوى الحقائق، ولا يجوز لنا اجتزاء الحلول أو تجميعها من هنا وهناك، بل علينا استنباط الشمولية في التفكير والتحليل وابتكار حلول تتوافق فيها الإجراءات وتتناغم، مثلما علينا التفكير والتدبير بعقلية منفتحة تدرك مجمل التحديات دون تجزئتها، بحيث يتم تحديد الخطط والإجراءات بدقة وروية دون انفعال وردود أفعال مبالغ فيها.
وبوضوح تام هناك بعض من عشرات الأمثلة لما قد حققه أصحاب المصالح الخاصة من تحويل الانطباعات إلى قناعات ثابتة لدى المواطنين الذين تتشكل لديهم القناعات حرصاً منهم على مصلحة الوطن وحباً منهم له، غير مدركين بأنهم في ذلك يحققون أهداف تلك المجموعات وهي أهداف بعيدة البعد كله عن مقتضيات الصالح العام.
ولكثرة تلك الأمثلة يتعذر حصرها في هذه المداخلة العاجلة ولكني فيها أعرج على بعضها لرفع ما يلفها من غطاء وتبيان حقيقتها دون مواربة. وعليّ أن أؤكد قبل ذكرها أن دافعي الأكيد ليس الدفاع المشروع عن النفس وإنما هو الدفاع الواجب عن الوطن، فأنا في خدمتي الحكومية لم أكن طرفاً فيما ينتقد من مشاريع التخاصية والطاقة والإعمار التالي ذكرها. فمشاريع التخاصية كان التفكير بها قد بدأ عام 1992 حين وصلت نسبة الدين العام للناتج المحلي الإجمالي ستة أمثال معدل النسبة التي ترتبت على دول الشرق الأوسط وشمالي إفريقيا. ولم يعد بمقدور الحكومة وخاصة شركاتها الاستمرار في تحمل أعباء المديونية. فلجأت الحكومة في عام 1996، إلى خصخصة شركة الإسمنت وشركة الاتصالات وشركة الملكية الأردنية وشركة البرومين (البوتاس) ووضعت مسودة قانون للكهرباء اكتسب صيغته النهائية وجاهزيته للتنفيذ وسمح القانون الجديد بخصخصة نشاطات التوليد الكهربائي ونشاطات توزيع الطاقة الكهربائية. وقد ساهم ريع عمليات الخصخصة دون شك في تسديد جزء معتبر من مديونية الأردن وإعادة جدولة الديون الخارجية.
ويعطي هذا السرد فرصة لدحض كل ما تناولته المنصات الإلكترونية من بيع لميناء العقبة. فالحقيقة الثابتة هو أن الميناء لم يعد يواكب التطور الكبير في مجال النقل البحري ولم يعد كذلك صالحاً للاستعمال دون أعمال كبيرة ومكلفة، كما أنه أصبح يتوسط مدينة العقبة ويؤثر سلبياً على بيئتها الاقتصادية والاجتماعية، وأن موقع الميناء القديم في المدينة أهله ليكون الامتداد الطبيعي للتعمير والعمران والنشاط الاقتصادي. فمن هنا كان الخيار الأسلم هو نقل مكانه (ليس بيعه فهو لا يزال ملكاً للحكومة دون منازع) وتطويره وبناء نظام جديد للموانىء حتى بلغ عددها ثلاثة عشر ميناء يختص كل ميناء بأداء مهمات معينة. وتم بناء وسائل التخزين للواردات الصلبة والسائلة وبناء صوامع جديدة للحبوب تفوق في سعتها ما كان موجوداً منذ أوائل سبعينات القرن الماضي، أما أراضي الميناء القديم فقد خصصت من ضمن التطوير العقاري لمدينة العقبة ومخططها الشمولي مما أهّل استخدام عائداتها المالية لغايات إنشاء مجموعة الموانىء الجديدة ليصبح منافساً قوياً لموانىء المنطقة إن لم يكن من أفضلها. وارتقت مدينة العقبة بكل هذه المجهودات من مصاف البلديات إلى مصاف الحواضر والمدن الرئيسة في عقد من الزمان أو يزيد.
ونال مطار الملكة علياء الدولي من التشويش ما نال الميناء، وحقيقة الأمر أن المطار لم يبع، وإنما تم تطويره وإعادة بناءه على أسلوب البناء والتشغيل من قبل القطاع الخاص ثم إعادته للدولة بعد فترة تشغيلية معلومة دون تكليفها أية أعباء مالية لقاء ذلك التطوير. وحقق المطار الذي أصبح بتوسعته وتطويره دولياً ما كان يؤمل له من خدمة السياحة القادمة من الخارج مدراً دخلاً وفيراً عادلا في العام الماضي عشرة أضعاف ما كان عليه سابقاً، ومعلوم أن السياحة للبلاد أضحت في الأعوام الأخيرة مصدراً رئيساً للدخل في المملكة.
ويضيف المشككون ادعاءات وسط زحام الإشاعات الانطباعية أن ثلاثة مليارات دينار من أموال الشعب قد وقعت فريسة للمتنفذين الطامعين، (وهو أمر لا يمكن له أنه يكون حيث أن أية أموال أو مساعدات ترد الأردن تدخل في حسابات الخزينة العامة وتودع في البنك المركزي وتخضع لرقابة ديوان المحاسبة ومجلس الأمة ويتأكد من ذلك الممولون والدائنون). وهم بادعاءاتهم هذه ليسوا عابئين بالحقائق ولا حتى بأنصافها ولا هم عابئون بسمعة بلادهم أو بمصالحها. والمستمع البعيد عن هذه البلاد الطيبة لا يلام إن هو صدق مزاعم وادعاءات تطلقها أبواق أبناء لها وبشكوك تتولد لدى المستمعين في الخارج يتولد بالتوازي لديهم عزوف عن الاستثمار فيها أو عن تقديم المساعدات لها في وقت نحن بحاجة ماسة لكليهما. إذ لا مجال للاستثمار في بلاد تسرق فيها أموال العباد!
وأختتم بعجالة سرد الأمثلة بمشروع سبقتنا له العديد من دول المنطقة ألا وهو من مسؤوليتي المباشرة كمهندس وكإقتصادي وما لقي من تفنيد ظالم شرس. وأعني مشروع «المدينة الجديدة». فقد تبادر للذهن هذا المشروع بعد ما داهمنا في العاصمة هذا الاكتظاظ بالسكان وبوسائل النقل وصعوبة الحركة والتنقل جراء تطور عمان الحبيبة، وما آلت إليه أسعار المساكن والأراضي التي جاوزت الحدود التي يطاولها أصحاب الدخول المحدودة. وكانت وما تزال أهداف المشروع تجديد النشاط التنموي وتسريعه ودفع عجلة النماء ما ينعكس بنتائج إيجابية للمواطن ولكافة قطاعات الاقتصاد في الوطن وفي مقدمتها قطاع الإنشاءات الذي يعاني من ركود كبير. وعوضاً عن الترحيب في مشروع كهذا طفق قلة من أصحاب العقارات والأراضي وتجارها يهاجمون فكرة المشروع حفاظاً على مصالحهم، وكان ما كان من توقف لهذه الفكرة الرائدة.
وللوضوح تكراراً، نقول إن غياب آليات التنفيذ المتكاملة من فكر ومقدرة وموارد يفرغ شعارات وعناوين هذه الأيام معانيَها ومضامينها، وهو ما سيحرم المواطن فهماً صحيحاً للغاية منها مما قد يدفع البعض للظن أن الهدف والتوجيه إليه لم يكن واقعياً في الوقت الذي هو كذلك، وإنما الفشل اعترانا في ترجمته من المجرد إلى جعله حقيقة واقعية، أو في غياب الآليات السليمة للتنفيذ. فلا بد لنا ابتداءً أن تترسخ لدينا القناعة التامة بالهدف وبالتوجيه إليه، وأن نعي معناه ومراميه وأن نُحكِم الربط بين الهدف والتوجيه ونضع الآليات الكفيلة بالإنجاز.
والأمثلة على ما أسلفت كثيرة يضيق المجال لسردها هنا أيضا، ولكني أستعرض بعضاً منها مبدياً بالطبع الرأي الشخصي الذي قد يخطىء فيعارضه البعض أو قد يصيب ولا يسلم من النقد! واختلاف الرأي لا يفسد للود قضية، فلكل مجتهدٍ نصيب. ولنبدأ بمفهوم «الاعتماد على الذات ومتطلباته»، وهو قد حظي باهتمام جلالة الملك حيث أطلقه عام 2017. فالمفهوم يؤكد تسخير كل ما هو متوفر في الوطن من موارد بشرية وأخرى طبيعية وخصائص محلية للإنتاج الوطني. وتغيير أنماط الاستهلاك بما يحد من التدفقات المالية للخارج لمواجهة أكلاف الإنفاق الأردني الخارجي لأغراض متعددة كالسياحة الخارجية وخدمة للمستوردات الاستهلاكية. ونتساءل في هذا الصدد عن حكمة الترويج المحلي لاستهلاك ما هو أجنبي مصدره وزيادته فوق طاقة المواطنين بالإغراءات التي يجود بها الدائنون على المدينين لاقتناء المستوردات من سيارات وآلات كهربائية والرحلات السياحية للخارج وخلافه بالتقسيط بدلاً من الترشيد لذلك الاستهلاك وتشجيع الإنتاج الوطني والسياحة الداخلية.
وإذا ما نجحنا في الحد من التدفقات المالية للخارج فإن ذلك يعزز الوفورات والاحتياطات النقدية اللازمة لدعم الإنتاج الوطني وتوسيع قاعدته. وفي هذا تحولٌ في المملكة من فكر التوظيف الذي سيطر منذ إنشائها إلى فكر التشغيل. ونتساءل حيال ذلك: هل يمكن إنجاز المبتغى دون ربط سياسة العمل باحتياجات قطاعات الاقتصاد المتعددة في خطة تنفيذية متدرجة للقطاعات آخذين بالاعتبار الميزة النسبية لكل منها قاصدين إيصاله إلى الاعتماد على العمالة المحلية خلال فترة زمنية محددة؟ فإذا كان الحال كذلك وبدئ بالجهد الحكومي لبلوغ الهدف فيتوجب أن تندفع المسيرة دون تراجع أو تردد أو تباطؤ بسبب تعاقب الحكومات وتباين الاجتهادات أو تبدلت الأولويات.
ومثال آخر: هل يمكن تعظيم القيمة المضافة للمنتجات الوطنية في أسواقها المحلية أو الخارجية دون سياسة صناعية تلازمها إجراءات واضحة وملزمة تربط المدخلات بالمخرجات وتسلسل ذلك؟ وكذلك تقديم الحوافز المالية ضمن سياسة واضحة المعالم للصناعة وشفافية الإجراءات؟ والإجابة هي نعم إذا ما خلصت النوايا وتلاحم المواطن مع حكومته ووثق بها وبأفعالها وأشاح عنه براثن الإشاعات المضللة واستند في تحليلاته إلى الحقائق والوقائع. أوَ ليست الحوافز المالية لهذه المشاريع أجدى من الإعفاءات الضريبية التي تحتسب على الأرباح بينما تستهدف الحوافز المالية زيادة الإنتاج وتقليل كلفته؟
ولنعرج معاً على العنوان الأبرز هذه الأيام وهو «همة وطن» الذي يمكن أن يكتسب زخماً أكثر ونفعاً أكبر لو ارتبط بشعار «الاعتماد على الذات». إذ ليس المراد من همة وطن الاستجداء أو التبرع والأعطيات، وإنما هي كما تعني مفرداتها مشاركة فاعلة من كل المواطنين في ما يعود على الوطن وعليهم بالخير والبركة. والشعار ومفهومه ليس فيهما الجديد. فقد عملت به دولٌ عديدة لمواجهة أزمات حلت بها بإصدارها سندات لمشاريع محددة بفوائد مباشرة مجزية تزيد عما يعرضه البنك التجاري على مودعي الأموال عنده بحيث يستطيع المواطن شراءها وبيعها في أي وقت يشاء ويجني عوائد من ذلك، وأخرى غير مباشرة تتأتى من المشاريع للنهوض بالاقتصاد لمنفعة العامة، وجراء ذلك يشعر المواطن بأنه شريك حقيقي في بناء وطنه وتحسين أحوال أسرته ومجتمعه، وبأنه واحد من المالكين لمقدرات وطنه. أوَ ليس هذا من أهم عوامل مشاركة المواطنين والقطاع الخاص في بناء الأوطان عوضاً عن شعارات مشاركة القطاع العام مع القطاع الخاص دونما تحديد لطبيعة الشراكة وواجبات كل منهما، ودون نتائج تتحدث عن نفسها؟
إن المنعة والقوة الحقيقيتين تنبعان من داخل المجتمع المعتمد على ذاته والمتراص والمؤمن بمستقبله المدافع الصلب عنه، وهو المجتمع المستند إلى حقائق دامغة لا تتشكل قناعاته من انطباعات طافية خاطئة. ولا يعوّل على قوة تستند إلى مقومات مصدرها في الخارج. فمانح أسباب القوة الخارجية هذه كفيل بسحبها وقتما شاء بمبررات أو بدونها. ونتساءل: كيف يمكن مواجهة الضغوط الاجتماعية دون إشراك المجتمع في الإنتاج وتأمين المستقبل الأفضل الزاخر بالخير؟ هذه أسئلة يدل على أجوبتها ما قام الأردن بإنجازه بقفزات اقتصادية وبنىً تحتية منذ أوائل ستينات القرن الماضي، تمثلت بالكثير من المشاريع الانمائية وأخص بالذكر في هذه المجال، مشروع تطوير وادي الأردن وعماده إنشاء مشروع قناة الملك عبدالله المؤسس. وهي إنجازات تعيد إلى ذاكرتنا التي توشك أن تبلى رجالات الوطن ممن عملوا تحت راية المغفور له الملك الحسين الباني وسمو الأمير الحسن ومنهم الشهيد وصفي التل ورجالات من أمثال حمد الفرحان ونصوح الطاهر وحازم نسيبه وعبدالوهاب المجالي ومحمد عودة القرعان ويحيى الخطيب ومحمد خلف ومحمود الحوامده وعلي الخصاونة وعمر عبدالله دخقان والدكتور حنا عودة والدكتور منذر حدادين وواصف عازر وكثيرون غيرهم من أبناء الأردن المخلصين، ومن رجالات الجيش العربي والأجهزة الأمنية. فقد انتقلوا ونظراؤهم بالأردن من حال إلى حال، وأحالوا ربوعه إلى جنائن تُجتنى، وبواديه إلى مناطق تعدين وحقول إنتاج، وقراه إلى مدائن شتى تحوي المصانع ومناطق الإنتاج.
ودعونا في هذه العجالة نستعرض مشروع تطوير أخدود وادي الأردن الذي بدأ التخطيط له عام 1955 بوضع الخطة الرئيسة لتطوير وادي الأردن وبدأ التنفيذ عام 1959 وتأسيس سلطة قناة الغور الشرقية بقانون لها مستقل. واعتمد الأردن في التنفيذ على المرحلية الزمنية والمكانية. وكانت الخطة الرئيسة تستهدف تطوير حوض نهر الأردن وانهت سلطة قناة الغور الشرقية تطوير الزراعة المروية من اليرموك حتى نهر الزرقاء وبذلك أصبحت هذه المناطق سلة الغذاء الأردنية. فقد اتبع الجمع الأردني الصادق أسلوب التخطيط المركزي والتنفيذ غير المركزي منذ تطوير وادي الأردن في مطلع الستينات إلى قرابة انتهاء عقد الثمانينات من القرن الماضي، وتجاوز الأردن بقيادته الفذة العديد من الأزمات الطاحنة بهمة قلت نظيراتها.
وتباعاً لهذا الجهد الطيب بدأ عام 1979 بتصاميم أولية بهدف استكمال مشروع تطوير وادي الأردن حتى العقبة وقف تدني منسوب مياه البحر الميت بربطه بالبحر الأحمر. كما بدأ بالتصاميم الأولية للمشروع عام 1996 وانتهت عام 1998 بدراسة أولية للجدوى الاقتصادية والاجتماعية لمشروع تطوير أخدود وادي الأردن شاملاً قناة تصل البحر الميت بالبحر الأحمر. وتمت التصاميم النهائية لهذا المشروع الكبير بدعم من بعض الدول الغربية، وتعثر المشروع مع تعثر عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وما تلا ذلك من توقف عملية السلام في الشرق الأوسط.
إن هذا المشروع الحيوي مؤهل لأن يكون المشروع الأول الذي يمكن تنفيذه باستخدام ما ذكرناه عن سندات «همة وطن» خاصة أننا نستطيع أن نقوم بذلك دون مشاركة مالية أو استئذان من أي دولة أخرى بعدما استرجع قائدنا جلالة الملك أراضي الغمر والباقورة. فهذا لهو مشروع وطني بامتياز بحيث ينفذ بصيغته الأصلية، متكاملاً إقتصادياً واجتماعياً وبيئياً، ويبنى بأموال الأردنيين طوعاً لا استجداء ولا قسراً ذلك أنه يستهدف منفعتهم وبعوائد لهم تفوق ما تجنيه ودائعهم من فوائد بنكية. وإلا كيف يمكن الاعتماد على الذات زراعياً وصناعياً بغير مشروعات كهذه؟ بل كيف يمكن محاربة البطالة وتقليص نفقات الدولة وهي الموظِّف الرئيس للعمالة في الأردن؟ بل كيف يمكن مواجهة المخططات المعادية للبلاد دون منعة داخلية؟
ونقول اليوم إننا في أمسّ الحاجة إلى مبادرة يستظل بها مجموعة مشاريع تستهدف تأمين التكاتف الاجتماعي والوحدة الوطنية وخاصة في محافظات الجنوب، كما وأننا بحاجة أيضاً إلى برنامج تنموي وطني بمشروعات محددة يستمد الدعم من القيادة الهاشمية المظفرة بما يعزز قدرة الأردن في الاعتماد على الذات ويكون عابراً للحكومات بحيث يضعه خبراء أردنيون ممن أثبتوا كفاءتهم ولهم أن يستعينوا بهيئة دولية على غرار برنامج الإصلاح الاقتصادي والمالي الذي دأب الأردن على تطبيقه منذ ثلاثين عاما. ويصبح تنفيذ برنامج كهذا معياراً فعلياً لقياس أداء الحكومات المتعاقبة. وبخلاف ذلك أو شبهه سنبقى ضحايا للتنظير وجلد الذات والاعتماد على الخارج الذي تكثر عندئذ إملاءاته التي لا بديل لنا عندئذٍ سوى الانصياع لها، عندها تبرز همة الوطن بهمم أبنائه وسديد أقوالهم وجميل أفعالهم.
وأستذكر عند الختام بيت شعر خالد لعمرو بن الأهتم يقول فيه:
لعمرُكَ ما ضاقت بلادٌ بأهلها ولكنّ أخلاق الرجالِ تضيقُ
أللهم اجعل أردننا واحة أمنٍ لأبنائه وضيوفهم، يؤلف بين قلوبهم إيمان بمستقبل زاهر وفخر بالملك عبدالله الثاني القائد الرائع، وطاعة لك يا رب العالمين. اللهم آمين.