مرايا – كتب : د. مهند العزة
فور الإعلان عن لجنة “تحديث المنظومة السياسية” والشارع الأردني منقسم في ردة فعله وتوقعاته وقراءته لهذه اللجنة من حيث أعضائها وعددهم الكبير، ففي حين رأت غالبية ملحوظة أن اللجنة لم تأتِ مختلفةً عن النهج التقليدي في آلية اختيار شخوصها ومهامها ولن تأتِ بما هو مختلف أو أفضل مما جاءت به سابقاتها، آثر آخرون التريث في الحكم عليها والانتظار حتى تنتهي من عملها ومن ثم تحليل مخرجاتها ومتابعة تنفيذها.
القطاع الواسع صاحب ما يمكن تسميته بـ “مدرسة التشاؤم الواقعي” رأى في تكليف رئيس الوزراء الأسبق سمير الرفاعي ترؤس اللجنة -وهو المحسوب على التيار المحافظ- مؤشراً على أنها قد تكون “مثل سابقاتها غاية لإمتصاص مرحلي للغضب والسخط العام على الأوضاع السياسية والمعيشية وليست وسيلةً لتحقيق الإصلاح”، رافضين التسليم بآمال “مدرسة تفاءلوا بالخير تجدوه” ممن يعوّلون حصراً على معرفتهم الشخصية بالرجل وتقديراتهم بأنه يتسم ببرغماتية واضحة وتغير ناجم عن تراكم الخبرة واختلاف الظروف…
في المقابل، يستند أصحاب “مدرسة التشاؤم الواقعي” إلى قراءة التاريخ القريب حينما أطاحت إحتجاجات شعبية بحكومة الرفاعي سنة 2011 وما تلا ذلك من كتاب تكليف ملكي لرئيس الحكومة التالية المكلف د. معروف البخيت، حيث تداول ناشطون مقطتفات هامة وذات دلالة من هذا الكتاب تشير إلى فشل الحكومة المقالة في إدارة ملف الإصلاح السياسي والإداري بعبارات واضحة ومباشرة، ومن ذلك ما نصه: “إلا أن المسيرة عانت من ثغرات واختلالات أنتجها خوف البعض من التغيير ومقاومتهم له حماية لمصالحهم، والتردد في اتخاذ القرار من قبل الكثيرين ممن أوكلت إليهم أمانة المسؤولية، إضافة إلى سياسات الاسترضاء التي قدمت المصالح الخاصة على الصالح العام، فكلفت الوطن غالياً وحرمته العديد من فرص الإنجاز”.
وتستبد الأسئلة بأصحاب “مدرسة التشاؤم الواقعي” حينما يسترسلون في قراءة كتاب تكليف البخيت نفسه الذي جاء فيه أيضا: “وفي ضوء ذلك، فإننا نكلفك بإجراء عملية تقييم شاملة، تفضي إلى إجراءات فاعلة تعالج أخطاء الماضي، وإلى خطة عمل واضحة تمضي بمسيرة الإصلاح إلى الأمام، من خلال مراجعة جميع القوانين الناظمة للعمل السياسي والمدني والحريات العامة وتطويرها. ويأتي قانون الانتخاب، الذي يشكل ركيزة التنمية السياسية الحقيقية، في مقدمة هذه التشريعات، التي تشمل قوانين الأحزاب والاجتماعات العامة والبلديات والعقوبات والمطبوعات والنشر وحق الحصول على المعلومة وغيرها. وفي ضوء ذلك، فإننا ننتظر منك أن ترفع إلينا في أسرع وقت ممكن توصيتك حول آلية حوار وطني شامل ممنهج، تتمثل فيه جميع مكونات مجتمعنا وأطيافه، للتوافق على قانون انتخاب جديد، يعزز الهوية الوطنية الجامعة، ويسهم في تطوير العمل السياسي الحزبي الجماعي”.
هذه المهام التي كانت مطلوبةً من الحكومة المقالة والمكلفة في حينها هي ذاتها التي أنيطت بلجنة الحوار الوطني منذ 10 سنوات تقريباً وهي عينها المطلوبة من لجنة تحديث المنظومة السياسية اليوم، فهل من وقفة لدراسة أسباب تكرار المشهد ذاته بشخوصه وأحداثه وسيناريوهاته وحواره؟ لقد تعهد الملك في كتاب تكليف اللجنة الحالية بتبني توصياتها وإحالتها إلى البرلمان، لتبقى المعضلة القديمة الجديدة المتجددة في الإجابة على السؤال المليوني: ما هو السيناريو الذي يمكن التوافق عليه وإقراره من البرلمان بين الاتجاهات والأطياف المختلفة بما فيها قوى الشد العكسي ودوائر صنع القرار العميقة؟ هل سيقبل الإسلاميون في اللجنة بتعديلات دستورية وقانونية تقود إلى دولة مدنية؟ وهل سيرضي الليبراليون مقترحات تفضي إلى ترسيخ سيطرة المرجعية الدينية بوصفها دين الدولة الرسمي والمصدر الرئيس للتشريع؟ ثم هل سيقبل المحافظون من الصقور –الممثلون بثقل في هذه اللجنة- بتوصيات ونتائج تنأى بهم تدريجياً عن المشهد وتخفف من القبضة الأمنية على مفاصل الدولة والحياة الحزبية والبرلمانية بوصف ذلك من حتميات أي عملية إصلاح حقيقية بعيدة عن التجميل.
جانب من هذه الأسئلة سبق وناقشها الكاتب فهد الخيطان في مقالة نشرها في نيسان/إبريل من هذا العام بعنوان: ما الذي يجمع الإصلاحيين في الأردن رأى فيها البعض تمهيداً مقصوداً لتشكيل لجنة تجمع المتنافرين لكي لا يتفقوا وينتهي المآل إلى معالجات سطحية لا تمس الجراح الغائرة وتسكين للألم إلى حين. الحقيقة أنني لا أتفق تماماً مع هذا الاستنتاج؛ لأن الطبيعي في الحلبة السياسية اختلاف التوجهات والأيديولوجيات والآراء وتدشين حوار ومحاولة الوصول إلى قواسم مشتركة على ألّا تُنحّى المرجعيات الجامعة التي قبلها أطراف العقد الاجتماعي المبرم وهي الدستور في مبادئه التي تعترف بالشعب مصدراً للسلطات وتحدد نظام الحكم في المملكة وتؤكد على مبدأ الفصل بين السلطات وتكفل الحقوق والحريات والمساواة للمواطنين وتناهض التمييز بأشكاله المختلفة، وكذلك مبادئ وأحكام عهود ومواثيق واتفاقيات حقوق الإنسان التي تبنتها الدولة حينما صادقت عليها ونشرتها في الجريدة الرسمية، فإذا تم القفز على هذه المرجعيات، فإن ما سيؤول إليه الأمر -كما أشار الخيطان- لن يعدُ تحقيق بعض توازنات وتسويات للقوى والمصالح المتعارضة.
على الرغم من العدد الكبير لأعضاء لجنة تحديث منظومة العمل السياسي الذين تبشر قلة منهم باحتمال حدوث شيء من التغيير، بينما بعضهم في مكانه يسير، وعدد ليس له في العير ولا في النفير، فقد يكون أمامها فرصةً لإحداث إنجاز نوعي يصلح منطلقاً لتحقيق المطالب الشعبية والرؤيا الملكية التي تضمنها كتاب تكليف رئيسها في ما لو توافقت -قبل الشروع في أي عمل أو نشاط- على مفهوم للإصلاح يضع العملية السياسية على مسار التصحيح، وإلا فإننا سوف نكون في معرض مقاولة ترميم وورشة تصليح.