د. مهند العزة
“هاظ اللي ناقص، نوخذ إذن من نسوانّنا قبل ما ننام معهِن”، هكذا همس أحد كبار المسؤولين في جهة تعمل على الحماية من العنف في أذن زميله الذي كان يجلس بجواره في جلسة نقاشية منذ سنوات حينما تم طرح مسألة تجريم الاغتصاب داخل العلاقة الزوجية. في الجلسة نفسها، أبت إحدى المسؤولات القانونيات في مؤسسة رئيسية أخرى تعمل في المجال عينه، إلا أن تكشف عن وجهها لا أقول القبيح وإنما الصحيح؛ فنافحت عن “حق الأزواج في اغتصاب زوجاتهم” مستقويةً على مخالفيها بدليل من الشريعة بأن “اغتصاب الزوج لزوجته ما هو إلا وسيلة لنيل حقه الشرعي إذا امتنعت من تمكينه من ممارسته، بالإضافة إلى لعنات الملائكة التي ستتناوب عليها حتى مطلع الفجر”.
عبثية تولي أعداء التحضر عبيد التحجر وظائفاً تتعلق بالإصلاح والتغيير، لا تنحصر في هذا الموقف الهزلي، إذ يتكرر هذا المشهد في كل مرة يحمل مدرسّة أو مدرّس فيها عصاً يومئ ويهدد بها طالباته وطلابه ساعياً بينهم في غرفة الصف المكتظة، فمن صفاء إلى مروة ومن منى إلى عرفة… يرغي ويزبد بينما يشرح نصاً مذاقه علقم في فمه عن نبذ العنف وقيمة التسامح والحوار: “العنف ممارسة همجية، فاهمين يا تيوس… ولكو الحوار والتسامح من الدين يا عديمين الدين…،” ليتشرب هؤلاء التلاميذ هذا التناقض الفج الذي سينشؤهم منافقين عنيفين أو متحجرين عنيفين أو ضعاف الشخصية مهزوزين عنيفين.
الجميع يتآمر علينا، ابن خلدون الذي وصفنا بالتوحش، المؤرخون الذين نقلوا جرائم الحرب التي قام بها عدد من أسلافنا، الصور الحية لمجازر الجماعات الإرهابية في كل مكان من هذا العالم، عدد لا يستهان به من الفقهاء الذين مجدوا ضرب الزوجة وإباحة اغتصابها ولعنها إذا رفضت أن تُغتصب، لكن مهلا، لا بد من إنصاف القوم، فهم يبيحون الضرب لمقاصد محددة أهمها: “تأديب العبد والزوجة العاصية التي لم يفلح معها الوعظ ولا الهجر وتأديب الأطفال لإرغامهم على الصلاة إذا بلغوا العاشرة..”،. ولكي نمعن في الإنصاف، فالقوم يقولون أن الضرب المقصود هنا هو “الضرب الخفيف اللطيف الذي لا يسبب أذى جسيم”، فنحن أمة لديها أصول وقواعد في ممارسة العنف الجسدي واللفظي.
وإذا كان بك شوق يا صاح للاستزادة من فقه إمتهان كرامة الطفل والمرأة وإنسانيتهما، فلا تذهب بعيداً في الكتب الصفراء التي تعج بأحكام وفنون التسرّي بالإماء واسترقاق الغلمان وإذلال المرأة وتحقير الصغير… وإنما استمع للشيخ العلامة والإمام الفهّامة محدث العصر ومجدد الفكر أبو إسحاق الحويني وهو يفكك ويحلل أسباب تردي الأوضاع الاقتصادية التي آلت إليها بلاد المسلمين، حيث يوبخ القادة على إحجامهم عن ممارسة القوادة، إذ يتحسر على أيام كانت تغزو فيها الجيوش فتعود بالسبايا والغلمان، فيزدهر سوق النخاسة لتتدفق الأموال على بيت المال فينعم الشعب والساسة، ولأن المحذر من الشر ليس كفاعله، فإليك الرابط:
المشرع الجنائي كان يستحضر كل هذا الإرث الظلامي حينما وضع نص المادة (62) من قانون العقوبات التي جاء فيها: “1- لا يعد الفعل الذي يجيزه القانون جريمة. 2- يجيز القانون: أ- أنواع التأديب التي يوقعها الوالدان بأولادهم على نحو لا يسبب إيذاء أو ضرراً لهم ووفق ما يبيحه العرف العام”. هذا النص إذن قنن ممارسة العنف وأطلق يد الأبوين ليمارسا ما شاءا من أشكاله، مع وجود قيد فارغ من مضمونه وهو: “أن لا يسبب العنف أذى أو ضرر”، فإذا سألت يا راعك الله، ومتى يكون العنف “التأديبي” قد تسبب بأذى أو ضرر؟ يجيبك القانون صديق العنيفين عدو المُعَنَفين: “وفقاً لما يبيحه العرف العام”، فإذا كان العرف العام مثلاً يرى في الصفع على الوجه والضرب بالعصا والجلد بالحزام أو السلك الكهربائي والرجم بالحذاء أو “شبشب أبو وردة” ممارسةً اعتياديةً تعارفت عليها المجتمعات كل حسب بيئته، فلا مآخذة ولا تثريب.
من هذا الكهف خرج ذلك الوحش الذي قتل ابنته يوم الأربعاء الماضي في عمان، فألهب جسدها الضعيف بسلك كهرباء لساعة كاملة دون أن ترتعش يده الآثمة وسط توسلاتها وصرخاتها التي تحرك الحجر، لتفارق الحياة تحت قدميه وتتكسر أحلامها البسيطة عند نعليه.
من المؤكد أن هذه الفتاة المظلومة كانت تهرب من جحيم العيش مع أبيها بحلم صغير يكبر كل ليلة تنامها مقهورةً مكسورة. لا بد أنها كانت تضع رأسها على وسادتها وتغمض عيناها المذعورتان لترى نفسها بلباس التخرج وصورتها منشورةً على صفحتها في فيسبوك مذيلةً بالتهاني والتبريكات وقلوب الحب والورود من الأقارب والأحباء ما عدا أبيها. لربما رأت نفسها تبتاع بلالين بألوان مختلفة لتنفخها مع فتى أحلامها -الذي لا يشبه والدها في شيء- فيطيّراها في غرفة الجلوس في بيتهما الصغير فوق كعكة كتب عليها اسم ابنتها التي حلمت بها وهي تحتفل بعيد ميلادها الأول، وتربط لها شعرها بشبرة زهرية اللون وتلبسها فستاناً أبيض مزركش بورود حمراء صغيرة وجورب أبيض مُكشكَش يطل من حذاء أحمر، وتعلمها كيف تمسك حقيبتها الصغيرة الأرجوانية التي وضعت لها بداخلها علبة عصير وبسكوت و”ساندويش”، ثم تمسك بيدها لتصطحبها إلى الحضانة في يومها الأول. ظل حلمها يكبر وتكبر معه طفلتها التي تمنتها لتمنحها كل ما حرمتها منه الحياة حتى تصبح صبيةً مشرقة الوجه مقبلةً على الحياة، لتتخرج من الجامعة دون إرهاب وترهيب ولا عذاب وتعذيب. لا أدري ولا أحد غيرها يدري إن كان قاتلها قد أمهلها حتى تذهب مع ابنتها لتصفيف شعرها ليلة عرسها وإن كانت قد ألبستها ثوب زفافها قبل أن تتمزق أحلامها وتفيض روحها.
قاتل ابنته ليس حالةً فرديةً ولا حادثةً عابرة، ولا هو وصمة في جبين مجتمع شرعنة العنف، قاتل ابنته صوت الماضي وصمت الحاضر، قاتل ابنته ابن بيئته.