كتب – د. مهند العزة
في عام 2014 تعرضت لحملة غوغائية بذيئة من عدد من متابعي وسائل التواصل الاجتماعي بسبب منشور على صفحتي على فيسبوك تناولت فيه نقداً موضوعياً لحركة حماس والجهاد، حيث حللت الجذر الأيديولوجي المشترك الذي تنتمي إليه الحركتان بوصفهما تمثلان تياراً دينياً سلفياً وآخر إخوانياً تجمعهما فكرة دولة الخلافة التي لا تعترف بحدود جغرافية ولا انتماءات وطنية، فحيثما كانت السيطرة للمسلمين فذاك الوطن بغض النظر عن جنسية من يقيم ومن يحكم، وبينت انعكاس هذه النظرة الثيوقراطية على بعض الأحكام الشرعية التي تتناقض والغاية النهائية للخط النضالي المعلن من كلا الحركتين، فشيوخ السلفية وعلى رأسهم الشيخ الألباني رحمه الله يطالبون أهل فلسطين بالهجرة امتثالاً للأمر الإلهي الوارد في سورة النساء واقتداءً بما فعله الرسول عليه السلام حينما هاجر إلى المدينة وأمره للصحابة من قبل أن يهاجروا إلى الحبشة. في الاتجاه نفسه، حينما سئل مرشد جماعة الأخوان في مصر الراحل محمد مهدي عاكف خلال حوار صحفي عمّا إذا كان يمانع بأن يحكم مصر شخص مسلم غير مصري، أجاب بلا تردد: “طز في مصر… وأبو مصر… واللي في مصر…”، وأنهيت حديثي بمطالبة هذه الحركات بإعلان موقفها من هذه الأحكام بإعلان البراءة منها أو تأكيد الاعتراف بها، ليقوم أحد المترصدين المتقصدين بكتابة خبر على موقع إلكتروني عنونه بـ”العزة يدعو أهل غزة للهجرة والاستسلام”، لتنهال تغريدات البذاءات والتخوين من كل حدب وصوب ممن لم يقرأوا ما كتبته وإنما اكتفوا بعنوان الخبر الذي نشره ذلك المغرض.
عريب الرنتاوي كاتب في جريدة الدستور منذ سنوات عدة ومحلل سياسي، قام من خلال مركز القدس للدراسات الذي يحظى بسمعة طيبة بإجراء أبحاث عديدة وتنظيم فعاليات حول الديمقراطية والنظم الانتخابية. أختير الرنتاوي عضواً في لجنة الإصلاح لما له من خبرة ذات صلة بالحقوق السياسية وما يتفرع عنها من ممارسات حزبية وانتخابية.
نشر الرنتاوي مؤخراً مقالةً تتناول النضال الفلسطيني في سياق مقارنات ومقاربات تاريخية مازجاً بين ما حدث في معركة الكرامة ونتائج الحرب التي خاضتها حركات المقاومة خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، لتثور حفيظة عدد ممن يقرأوا ليترصدوا وليس ليرصدوا؛ ليس على ما كتبه الرنتاوي وإنما بسبب ما لم يكتبه، إذ لم تتعرض المقالة لدور الجيش العربي الأردني الأصيل في معركة الكرامة لأن سياقها كان منصباً على حركة التحرر وليس حيثيات وأحداث المعركة نفسها. وجد المترصدون ضالتهم في ما لم يجدوه في المقالة، لتبدأ ضده حملة بشعة من الهجوم والتخوين ملؤها العنصرية والتنمر وعمادها التنجيم وقراءة الكف الذي أوصلهم لقراءة “نية مبيتة لدى الرنتاوي لإغفال دور الجيش العربي “!
نشر الكاتب اعتذاراً واضحاً عن سوء فهم البعض لسياق ومضمون مقالته، مؤكداً على استحالة انصراف نيته إلى إغفال دور الجيش العربي الأردني، إلا أن هذا لم يفلح في تهدئة الغاضبين والمُستَغضَبين، فقام حوالي 450 شخصيةً ما بين إعلاميين ومتقاعدين عسكريين ونواب ووزراء سابقين بتوقيع عريضة تطالب بإقالة الرجل من لجنة الإصلاح، وهو ما تم مساء يوم السبت الماضي.
إذا كان من المرفوض بل المعيب قولاً واحداً التشكيك في نوايا مئات الكتاب الأردنيين والفلسطينيين الذين تناولوا معركة الكرامة المجيدة بألوف المقالات دون أن يتطرقوا لدور المقاومة فيها لا من قريب ولا من بعيد، بسبب السياق الذي اختاروه والغاية التي كتبوا من أجلها، فإنه من غير الأخلاقي وبالقدر نفسه، أن يُتَّهَم شخص بأنه يُنكِر ما لا يُنكَر من دور بطولي ثابت وموثق للجيش العربي في هذه المعركة، وهو ما تطرق إليه الرنتاوي في مقالات سابقة عن الكرامة وأعاد تأكيده في الاعتذار الذي نشره منذ بضع أيام.
لن نطالب عدداً من الأسماء التي وقعت على عريضة إقالة الرنتاوي وغيرهم ممن تنمّروا عليه على وسائل التواصل الاجتماعي ممن يؤيدون بعض أطراف “قضية الفتنة” وينافحون عنهم؛ بتفسير صمتهم المخجل عمّا تلفظ به الشريف حسن من كلمات نابية على مسمع من الأمير حمزة حول معركة الكرامة واستهزائه بإحياء ذكراها والاحتفال بها إذ لم يتورع عن استخدم ال”F word” وهو يسخر منها، وإنما ما نود مناقشته هنا هو التفشي غير المسبوق لفاشية فكرية موجهة من قبل تيار لا يختلف عن تيارات الفكر الديني المتطرف بل هو أشد خطراً لأنه غير مؤدلج ويستمد قوته من الديماغوجية التي تستثار وتتحرك بنقرة خفيفة على وتر شعبوي عرقي أو ديني أو جهوي.
لجنة الإصلاح التي تبحث في آليات توسيع الأفق السياسي والحريات، لم يكتفِ أعضاؤها بفشلهم في استيعاب مقالة لم ترق لبعضهم، ومرةً أخرى ليس بسبب ما كتب فيها بل بسبب ما لم يكتب، وإنما أصروا على تأكيد توقعات الغالبية الساحقة من المتابعين والمهتمين بالشأن السياسي أن عدد كبير منهم ليس مؤهلاً لإخراج ما يمكن البناء عليه، فأنى للجنة الإصلاح أن تعطي ما لا تمتلكه، ألم يكن أحرى بأعضائها حتى أؤلائك الذين أزعجتهم المقالة أن يدافعوا عن حق الرنتاوي في التعبير ليقدموا نموذجاً لحالة الانفتاح الفكري والسياسي التي كلّفوا بالتمهيد لها؟ لم تتعلم هذه اللجنة من درس الأمس القريب حينما تماهت الحكومة مع حملة تكفير غوغائية ضد الكاتب الراحل ناهض حتر، إذ تم اعتقاله ليكون ذلك بمثابة إقرار رسمي بـ “كفره” ليُقتَل غيلةً في وضح النهار.
الديمقراطية وحرية التعبير طريق باتجاهين، اتجاه يعطيك حرية أن تقول ما تعتقده حتى لو لم يعجب الآخرين، واتجاه آخر يعطي غيرك الحرية نفسها بأن يُسمِعُك ما لا يعجبك. من حق البعض أن يتطرف بموقفه الوطني ويرى أن عريب الرنتاوي قد أخطأ وأن لا يغفروا له رغم اعتذاره، لكن ما لا يمكن غفرانه خطيئة صمت أكثرية من أصحاب الأقلام و”الإصلاحيين” عن حملات الإرهاب الفكري ومشاركة أقلية منهم في تدشينها.