مرايا – حمزة التلاوي – وجدوني في الصبح جثة هامدة، غطتها النسور الجارحة، وكانت الغربان في السماء تطوف مصدرة أصواتًا جنائزية، أما العصافير فبقيت على شجرة الإعدام صامتة.
الشيء الوحيد الذي صمد هو السيف المغروس في صدري. إلتفَّ حولي الجميع، وكانوا في عاداتهم يمارسون رقصة الموت المبجلة، حيث يضعون من مات بشجاعة وبسالة في الساحة العامة للبلدة، ويشعلون مشاعل النار، ثم يطوفون في أرجاء المكان منشدين نشيدهم الجنائزي المقدس: ( هذا هو ابننا، هذا من نسلنا، من مات منا شجاعًا سيبقى خالدًا، هذا الحر منا، من بطون أمهاتنا، من مات بالسيفِ فخرنا، من مات لأجلنا عزنا، ومنه تظل حيّة أرواحنا، هذا من نسلنا، هذا هو ابننا ).
لكنهم لم يمارسوا طقوسهم المقدسة هذه المرة وقرروا البكاء هذه المرة بصمتٍ مهيب، دون دموع، فقد كانت الدهشة حاضرة في العيون الشاهقة، لقد وقفوا صامتين عاجزين عن فعل أي شيء.
كنتُ أجد لهم العذر، فهم ما كانوا يحسبونَ أن بطلهم المُهاب سيموتُ في يومٍ ما، كيف سيفنى هذا الفارس المغوار الذي لم يهزم في حياته قط، إنه بطلنا القومي، القوي الذي لن يقوى عليه أحد، حتى تلك السيوف البتّارة لا تقدر عليه، ولا تلك الرماح المسننة، ولا تلك السهام تستطيع اختراق صدره العاري المنتصب، لا أحد يقترب منه عند احتدام المعركة، لقد كان له في كل معركة صولات وجولات، وكانوا يستمدون القوة والشدة من جبينه الذي يقطر دمًا وغضبًا وأنفة، وعندما تطول المعركة ويتعب المحاربون، تأتي صرخة مدّوية منه تعيد المعركة من جديد كأنها بدأت للتو ويهبُ الحماس في كلا الطرفين، لقد كان فارسًا بلا خيل، فكل الخيول في الميدان يمتطيها، قافزًا من ظهورها واحدًة تلو الأخرى، وكان يُسقط الأعداء واحدًا وراء الآخر، وبضربة واحدة، أكتافه كانت مدججًة بالأسلحة، يحمل عليها الرماح والسهام والنبال والسيوف، ولم يكن يُحارب أعزلًا، فإذا اشتبكَ مع محاربًا من الطرف الآخر بلا سلاح كان يرمي له سيفًا، ويصرخ به: هيا قاتل كالرجال واحظ بهذا السيف الذي منحتكَ إيّاه إن استطعت، لقد كان بطلهم يحظى بالاحترام والإعجاب حتى من ألّد خصومه، وكانوا دائمًا ما يقولون: ليتكً أيها الشجاع المقدام واحدًا منا، ليتكَ من نسلنا وتنجب لنا نسلًا عظيمًا.
لقد كنتُ لهم المخلّص، وسلاحهم الرادع، لكنه الموت يا عزيزتي هو قدر الجميع، حتى الأقوياء والشجعان، لا يصمدون أمام جبروته وهيبته.
لا أستطيع الصمود في هذه الحياة القاسية المليئة بالحروب والمعارك والدموع، والنواح على كل من ماتوا، آن لي أن أستريح ولو قليلًا، لقد أثخنتني الجراح، وعظامي تكسّرت من شدة الضربات. سأستريح أخيرًا فقد قبلتُ تحدي أحد زعماء الحرب من الأعداء تفاديًا لحرب طاحنة، وحقنًا للدماء.
لقد كان ضخمًا جدًا، وقوي، وصلب، وكان يحمل سيفًا ثقيلًا لم أرى مثيلًا له، وحادًا يستطيع قص الفولاذ به، أما أنا فقد اعتدت حمل العديد من الأسلحة فوق أكتافي لكنني في هذه المعركة قررت أن أكتفي بسيفي كي أحافظ على رشاقتي وخفتي المعتادة. لقد بدأ النزال الدامي مع بزوغ الفجرعند مطلع الشمس وشروقها ولا أعرف متى انتهى، لكن آخر ما رأيت كان غروب الشمس، وكأنما كنت أنا أغرب معها ولكن بلا عودة، غائبًا وصاعدًا نحو الحياة الأبدية.
لقد قررت أن أستخدم قتالًا غير تقليدي هذه المرة، بدأت بطعنة في فخذه، وكنتُ بهذه المباغتة قد فتحت نار غضبه التي صبّها علي، لأنه كان يعتقد بأني سأبدء بضرب السيوف، لكني باغته مرةً أخرى، وسدّدت له ضربةً في نفس المكان من جسده، حيث صار يترّنح، ثم سرعان ما استعاد قوته مثل ثور هائج، فقد هاجمني بكل قوته وجسده الثقيل، وصرت بدلًا من توجيه الضربات أتلّقاها بسيفه الثقيل، لقد جرحني في كل مكان في جسدي، وأنا أيضًا سببتُ له بعض الجراح، لكن جراحي كانت عميقة، وبسبب ذلك إضطررنا أن نأخذ فترات استراحة كي نستطيع مواصلة القتال الذي طال وقته، لقد كان يهددني ويصرخ بي: سأقتلك، ولكن بمرور الوقت، أصبح يقاتل بصمت، ويستريح بصمت، وكنتُ ألمح في نظراته نظرة حماس ومودة، صارحني أنه تعب من القتال وطلب مني استغلال أي فرصة أو ثغرة لقتله، قال لي: أن الموت في هذه المعركة شرف وفخر، وكم تمنيتُ أن تكون إلى جانبي في حروبي ومعاركي.
تعبت من القتال والحروب وسفك الدماء، وأريد استراحةً أبدية، أريد أن أرحل، فقد اشتقتُ إليكِ كثيرًا. لأنّ رحيلكِ سببّ لي الألم الخالد والحقيقي في جسدي، والحزن نخر روحي البائسة.
إن انتحاركِ وتفضيلكِ الحياة الأخرى هو اختبار موجعٌ لي، وهو ما ولّد فيّ قوةً وغضبًا لا يستكين البتة، كانت المعارك هي مناصي الوحيد من عذاب رحيلكِ.
عندما انتحرتِ، هرعَ الجميعُ إلى ساحةِ الأشلاءِ، كانَوا حولكِ يرقصونَ رقصة الدم، الرقصة القومية الدارجة، يرقصونها لكل من ينتحر. أنا لا أستطيع الاستدارة والتخلي عنكِ فأنتِ قضيتي المقدسة، أنتِ سر وجودي الذي أدركته عندما رأيتكِ. كان انتحاركِ بمثابة طعنةٌ في الروح قد فاقت أي ألم، سهم في الحشا، وجعٌ مطلقٌ. حينها أشعلتُ النار في جسدي كي اتحرر من وجع انتحاركِ، كان وجع الاحتراق أروع بكثيٍر من أن أحتمل موتكِ.
الاحتراق هو الشفاء الوحيد لمرارة فقدكِ. لا أصوات للعويل هناك، قرع الطبول هي المهمة السائدة. عندما انحنيتُ قدامكِ بعد أن أطفئوني بشدة بالغة، قلتُ لكِ بصوت خافت ومجروح : فعلتها إذن ؟ ألم نتفق على أن نغادر هذا العالم السفلي معاً و نعبر إلى هذا العالم الأبدي؟
وأخيرًا سقطتُ في اخر معاركي وحروبي بين يدي المحارب الصلب والضخم ذو السيف العظيم. كان يهذي؛ وكنت أهذي. و كنا أنا و إياه نمارس البذخ، أنا أمارس حزني و أداري الزمن؛ و هو يمارس اللذة الأخيرة؛ و يلحس بلسانه بقايا الزبد الأخيرة. أشهر سيفه ثم غرزه في صدري محدثًا صرخةً عظيمة، غرزت أظافري في عنقه وذرفت عيناي دمعًا مغمسا بالدم، قلت في صحوة الموت جملتي الأخيرة: قتلتَ نفسك بي أيها الموجوع بالشهوات، وتركتَ في أعماق نفسك جراح بائسة، عش إذن في هناء يا ابن الحياة، فأنا قتلتك مرتين: مرةً بالدموع، ومرةً بسيفك. كانت دمائي تسيل من جسدي مثل نهر عذب وساكن، و كنت ملقىً مثل فارسٍ مبجل يبحر في الدم القاني. ظللت أحدّق في عينيه الذاهلتين. أما هو كان يفتش بعينيه الخاشعتين المضطربتين عن بقايا روح في كومة أشلائي، وعيناي تخبرانه بأنه فات الآوان. أشاح بنظره عن جسدي المقتول و بكى منتحبًا بعد أن ركع تحت أقدامي الباردتين، أمسك يدي بحرقة، ثم مزق قميصه المخضب بالدماء، رقص متمايلًا رقصة الدم الدارجة، وانتفض فجأةً كأنه وجد ما يبحث عنه، شحذ سيفه مرةً أخرى و دنا مني هامسًا: انتظرني، أنا قادم إليك. حلّق بعينيه نحو السماء، ثم غرس سيفه في حلقه محدثًا صرخة الموت المبجلة.
– أما أنا يا عزيزي فقد كنت أنظر عليكَ من فوق، لم أكُ حزينة قط، بل كنت في غاية السعادة، تأنقتُ لاستقبالك، أظنهم كانوا على يقين بأنهم خسروا فارسًا. أما جثة قاتلك لم يعرف ملامحها، كانت الذباب و الجرذان قد أجهزت عليها، يروق للذباب جثث القتلة، وبدرجة عالية تقبل عليها القوارض والحشرات والديدان بنهم، أما جثث الأحرار فهي عصية على التحلل وعصية على الحشرات، و تفضّلها النسور الجارحة، تستلذ بطعمها، و تشعر باللحم الطازج الطري طعم الأنفة. لم يتمكنوا من معرفة الوجه القاتل بل وضعوه على الفور في حاوية استعدادًا لرميه في حفرة الأعداء الذين لا أسماء لهم، واحتاروا كيف يخلّصونك من السيف المغروس في جسدك كشجرة عتيقة لها جذور في قلبك، حتى أقبل شخص مهاب ومقدام قام بسحب السيف لكنه سقط مغشيًا عليه جرّاء الصوت الخشن الذي أصدره جسدك. لكن الأكثر غرابة صوت تنهيدة خرجت مثل الزفير من فمك، كأنك استرجعت نفسك المختنق، و صار وجهك أبيض وعيناكَ صارتا صافيتين، أقبل أحدهم كي يقبّلك لكن الجميع رفض، قالوا بصوت واحد: هذه قداسة لا تنجسوها.