قصة بقلم: حمزة التلاوي – “المقبرة بعد منتصف الليل”
بزغ الفجرُ أخيرًا، وكاد الصبح أن يطلع، كانت ليلةً رهيبة، لا أعرف كيف استطاع القدر ترتيبها، لقد كبرتُ مائة سنة كاملة قبل أن أخرج ملقيًا تحية اللقاء.
الليلة؛ استطعت أن أراهم جميعًا دفعةً واحدة، فالمقبرة بعد منتصف الليل لا تضيء أبدًا، هكذا أضاءت مرةً واحدة، كان جميع الموتى يتسابقون لاستقبالي، منهم من أعد لي الشاي الأسود شرابهم الدارج، و منهم من أعّد لي الطعام القرمزي الشهي، ثم أشعلوا النار إيذانًا ببدء الاحتفال، لقد ظهروا علي و قدّموني للآخرين الذين ماتوا مؤخرًا ولم ألق عليهم النظرة الأخيرة، عاتبوني بحزن أن موتهم كان مؤلمًا وكان يجب علي أن أحضر جنازاتهم، لكني كنت في قمة اليأس أدور حولي نفسي باحثًا عن عرّافة تواسي حزني و جموحي.
دخلت من الباب الخلفي، هكذا أشارت لي العرّافة كي لا يكتشف أحد مكاني ويرجمونني بألسنة اللهب، دخلتُ وانكببت على الأرض كأني جثة. حيث قالت لي: إن الذين يريدون التعافي من نفوسهم الحزينة لا يأتون من أجل الشفاء، إنما من أجل العزاء، فالأقدار إن حصلتْ لا يمكنها أن تعود ثانية وتصحح مسارها، إنهم يأتون من أجل البوح والثرثرة، فأنا لا أملك غير أذناي اللتانِ أسمع بهما وجوارحي التي تنبض حزنًا من أجلهم، ويداي التي تربت على أكتافهم، و دموعي التي تفيض دمعًا على حسراتهم، إني أقول لك سلامًا، ولكني لا أملك شفاؤك، أملك أن أمسك بذراعيكَ وأساعدك على النهوض.
كانت رقصة الموت صاخبة على فقدان أحدهم، فهو معروف بزهده وقلبه خالٍ من الكراهية، ولقد كان واحدًا من المعاتبين، لكني قلت له أني مجروح الفؤاد، و أبحث عن دواء لدائي، وإني اليوم بين يديك، ضعني في وسط النار التي تشعلون للاحتفال، وأنشدوا نشيدكم على حي بائس مثلي، و قدموا لحمي قربانًا أخيرًا للموت كي أصير واحدا منكم.
قال مشفقا علي: يا أيها الحي، قم الان وارحل وابعث سلامنا على الأحياء من بعدنا، وأشعل النار وألق خطبة باسمنا جميعًا، وقل لهم لا شيء يقلقكم علينا، إننا نعيش في سلام و نعيم، ولا نرغب في شيء إلا أن تحترموا أرواحنا التي زهقت من أجلكم وأقيموا لذكرانا ألسنة النار في كل ليلة كي تهدأ قلوبنا ونطمئن أن ما متنا عليه ما يزال بخير.
غادرتُ مرعوبًا، ما كل هذا الذي يجري في ذاك العالم العلوي البعيد؟ سأُلقي خطبتي في وجوه القوم، تلك وصيّتهم.
في المساء، أُشعلتْ النار كالعادة، ليبدأ السمر الليلي، يتبادل الجميع أطراف الحديث، ثم يلقي البعض قصائد شعر، والبعض يكتفي بالمراقبة، وقفتُ وقلت لهم إسمحوا لي بالكلام، فلدّي خطاب لكم، تلك وصية.
وسط تهكم البعض، قال وجيه القوم الذي يجلس في صدر المكان:
– قم وافعل يا فتى، إننا نسمعك، هاتِ ما عندك.
– إنها وصيّة من العالم العلوي البعيد، من أمواتنا الذي دفعوا حياتهم من أجل أن نحظى بحياة هانئة، إنها وصيّة قادمة من المقبرة.
وفي هذه اللحظة قاطعني الوجيه ساخرًا وبصوت عالٍ قال:
– وهل قدمت الوصية على رجليها أم يديها، ومن القتيل الذي خرج عليك.
ثم أطلق ضحكةً مدوّية تبعها ضحكات ساخرة من جميع المتسامرين.
لكني لم أصبر على الإهانة، فقررتُ أن أرد له الصاع صاعين، وصرخت فيه:
– القتيل الذي تتكلم عنه، هو الذي دافع عنك في أشرس معركة خاضها القوم مع أعتى الأعداء، هل تذكر كيف تصّدى بصدره طعنة السيف من الخصم وأنت قمت من مكانكَ هاربًا مذعورًا، وعدت للظهور في نهاية المعركة بعد النصر لتخطف الأضواء وتدّعي بأنك البطل الهُمام.
وبغضبٍ رد عليّ:
– تكذب أيها الفتى اللعين، فأنا من تصدّى الضربات وليس هو..
قاطعته ويدي قابضة على سيفي:
– وكيف نجوت أنت من الموت، وهو ارتقى شهيدًا؟ شهيدًا يا وجيه القوم وليس قتيلًا كما تقول، الشهداء ليسوا قتلى، إنه أحياء ينظرون إلينا من علّو، لولاهم لما استطعت أن تجلس في هذا المكان وتصير زعيمنا الذي يحتكم الجميع بأمره.
وقف الوجيه وأخرج سيفه:
– جرّد حسامك من غمده أيها الأرعن، ستدفع حياتك ثمنًا لفعلتك هذه.
– إن كنت تجرأ فتقدم هنا، لكنكَ تعتمد على حاشيتك وزمرتك الفاسدة، فكم من نزال تم انقاذك في اللحظات الأخيرة من الموت المحتّم. إسمعوا أيها القوم: إن آباؤكم وأجدادكم ماتوا بشرف كي تنعموا بحياة كريمة، لقد صنعوا لكم المجد والعزة، حتى صارت جميع الأقوام تهابكم وتخافكم، إن دماء هؤلاء الأبطال الزكية التي روت أرضنا أمانة في أعناقنا، تلك الأمانة التي فرّط بها هذا الوجيه وإدّعى البطولة لنفسه ولم يكرم الشهداء من قبلنا، بل راح يمّجد نفسه فقط، يا قوم ستحل لعنتهم علينا إن لم تفيقوا وتعيدوا تصحيح المسار الذي خُط لنا بإباء وعزة.
وأنتَ إن كنت تريد نزالًا عادلًا فإليك إقتراحي:
نذهب انا وأنتَ إلى المقبرة بعد منتصف الليل ولنرى من سيفوز.
صاح القوم بصوت واحد:
نعم إنه رأي صائب يا زعيم القوم، فليكن نزال موت إذن.
توّجهنا مباشرةً إلى المقبرة أنا وهو، وانتظر الجميع على الأسوار في الخارج، وأشعلوا النار لتضيء المكان، بالنسبة لي لا حاجة لي لتلك المشاعل، فقلوب الشهداء في المقبرة تنير دربي ومهجتي.
لقد كان خائفًا ومرتعدًا، أخرجت سيفي، فتراجع خطوة فوقع بعد أن تعثّر بقبر، حاول النهوض لكنه تفاجئ بإسم شهيد على القبر، فارتعد ثانيةً، ارتجفتْ يده التي تحمل السيف، وصار يتّلفتُ يمنةً ويُسرة، ولا يعرف من أين تظهر له صور الأموات في المقبرة، لقد كانت نظراتهم غاضبة وناقمة عليه، وما إن رفعت سيفي حتى فرّ هاربًا ومذعورًأ وسط ذهول الجميع الذين منعوه من الهرب، وقاموا بمحاصرته وسط مشاعل النار، وصرخوا فيه: قم أيها الجبان، فأنت لم تبدأ النزال بعد، مم هربت يا زعيم النحس والجبن؟
عندها دخلت في وسط القوم، وقلت لهم:
– يا قوم، لقد فرّ هذا الذي وليتموه عليكم سيدًا ليس مني، بل من صور الشهداء التي كانت تظهر له، صورهم الغاضبة والعاتبة، هل عرفتم لماذا طلبوا مني القيام بخطبة كوصيّة لهم؟ لأنهم لا يشعرون بالراحة في مثواهم الأخير، وقبورهم تتقلب كل ليلة بانتظار من يُريحها من الذي خانها من أجل مجد شخصي انانيّ.
كان الغضب يعتلي على كل الوجوه، فتّم إنزال العقوبة عليه وعلى أتباعه، بأن يكون حارسًا للمقبرة لا يغادرها، بل ويقوم كل صباح بتقبيل شواهد القبور شاهدًا شاهدًا، لعّلهم يقومون من قبورهم ويعودون للحياة، عندها سيقررون الصفح عنه أم لا، هذا إن عادوا من موتهم.