قصة بقلم: حمزة التلاوي.
كانت عجوز الحي في حارتنا الصغيرة والبائسة أيقونة فريدة؛ فهي أكبر كائن حي لدينا، إنها تاريخٌ طويل من الحكايات، لقد بلغت العقد العاشر من عمرها، وما تزال ترمق كل المارقين من أمام بيتها، وكانت تحدّث كل شخص يمر كأنها تعرفه منذ زمن ليبادلها نظرات الاستغراب، وأحيانًا ابتسامة خفيفة. عندما كنتُ أجلس على عتبة بيتنا الصغير الذي يقابل بيتها محاولاً مرارًا وتكرارًا أن أنصت لما تقوله للمارة، وبصعوبةٍ بالغة سمعتها تشتم أحد المارة، فلقد لعنت أباه. ذُهلتُ عند سماعي هذه الشتيمة، والتي بادلها الشاب نظرة استغراب وتجاهل، لا سيما أن الجميع تقريبًا يتحاشون الاتصال مع العجائز خوفًا من التورط في ألسنتهم الحادة. سمعتها مرةً تنادي على شخص مرّ كعابر سبيل:
هل أنت ابن فلان الفلاني؟
أجابها: نعم، هل تعرفينه؟
– كيف لا أعرف أباكَ الكريم ابن الكريم، فليرحمه الله، لقد كان أكرم من عرفنا من الناس أيام بلادنا القديمة التي كنا نقطنها وخرجنا منها عنوةً، لم يكن ينام الليل وأحد الجيران يبيتُ جائعًا في بيته، إنه الكريم المُشفق، طيب اللسان والمعشر، ولا يملك ما في جيبه. إنه كان ملاذَ الفقراء.
أكمل الشاب طريقه بعد أن انحنى تحية احترام مودعًا العجوز.
وللأمانة فقد أثار هذا الموقف فضولي، فرحتُ صوبها وسألتها:
– لماذا قمتِ بشتم ذلك الشاب الذي مرّ من هنا ولعنتِ أباه؟
قالت العجوز وهي مشغولة بتعبئة أكياس كبيرة من الخبز الناشف:
– لقد كان أباه من أغنى الناس في قريتنا القديمة، وكان يُقرض الناس المال ويستردها أضعافًا، ومن لا يستطيع تسديد دينه يقوم بالاستيلاء على أرضه، تعبه وشقائه، لقد استولى على أرض زوجي الذي مات قهرًا على أرضه، لقد استمر عامًا كاملًا وهو يذرف الدموع إلى أن وافته المنية فجرًا.
– ولكن، كيف عرفت الشاب أنه ابن الرجل المرابي والطمّاع؟
– سيماهم في عيونهم يا بُني، إن له عينانِ مثل عيني والده، وله نفس النظرة، لا يمكن أن أنسى عيون ذلك الرجل ونظراته الشريرة والطامعة في كل شيء يراه. إن الأسى والألم يبقى محفوراً في القلب إلى الأبد، ولا يمكن أن يُنسى.
وقبل أن أغادر، سألتها الدعاء لي بالتوفيق لأني مسافرٌ إلى بلاد بعيدة، وربما لن أعود قبل سنوات، فقالت لي بعد أن تضرعت إلى الله أن يوفقني ويرعاني في الغربة؛ عندما تعود يا بُني من غربتك ستجدني هنا في نفس هذا المكان، فقلتُ لها: طبعًا سأعود لأراكِ ثانيةً، احرصي أن تكوني بصحة وعافية وقوّة كما عهدتك. تبسّمت ابتسامة الواثق وقالت: لا تخف ستجدني حية؛ فعُمر الشقي يبقى طويلًا.
بعد أيام معدودة سافرت إلى البلاد البعيدة التي لا تُشبهني، إنها مليئة بالصخب والحياة فيها مسرعة كأنها على عجلةٍ من أمرها. لقد كنت مكسور القلب والوجدان، أمشي في شوارع لا تعرفني، وطرقٍ لا أنتمي إليها، غريب عن كل الوجوه، متبعثر الخطوات، أحمل نفسي وسط صيحات التيه والنسيان، وأرى وجوهًا كالحة، لا ترد السلام على أحد، أمضي والكره في أعين الجميع يلمع، والنقمة من على الشفاه، أمضي وأحمل وحدي هذه المشاعر، الجميع هنا ينفث بالدجل وبالمظاهر الكاذبة، كأن الكل يسألني: إلى أين تمضي أيها القبيح المدجج بالأغاني؟ أغانيك عار، مشاعرك عارية، وصمتك المحرم لا يغنيك من سأم ومن جوع.
ومثل خفّةِ الحَمقى أسيرُ مُدَججاً بِالأوهام، وأَصيحُ مِثل نَشاز الكمنجاتِ في شَارع ٍ بائس يُعانقُ نبحَ الكلابِ، وَأهوي في الرياحِ كَرمحٍ جائرحطَّ في الحَشى، سدىً أَسلكُ هذا الطَريق، وَجِسمي دِرعٌ للذكريات، لا أُودعُ غيرَ الغَمام تحتي، وأعبرُ فَوهةَ الوهمِ عِنوةً لِأُعانقَ سِربُ الحَمامِ المُغطى بالغبار، كانت أيامي كانت طويلة جدًا، مثل السجين بانتظار الإفراج ومثل امرأة تنتظر المخاض كي تحضن ابن بطنها، وقلبي يملأه صبرُ الغريب عن الديار، ومثل لاجئ يأكله البرد في الخيام، و مثل يائس يجلسُ على شرفات البؤس.
كان للغربة وجهٌ متوحش، تمامًا كوجه السجن القبيح والقاسي، ومرارة تطغى على كل الوقت الصعب الذي لا يعرف الرحمة، كنتُ قديمًا ذاك الشخص العنيد، لا يعرف لون العاطفة والحزن والشحوب، ولا يعرف طعمًا للحب، لكنني الآن ذلك الشخص الذي يذرف الدموع عند أول ذكرىً أو مناسبة، لقد اشتقت لكل شيء في بلادي الصغيرة والفقيرة، والغنية بالحب وبالأراضي الخصبة، لقد اشتقت حتى لتلك الذكريات القديمة والبسيطة، ولعنفوان الأيام الغابرة، اشتقت اشتياقًا رهيبًا، وصرت أردد في نفسي: لا شيء يستحق هذا العناء، سأعود إلى وطني وقرّة عيني.
كنتُ عادةً ما أمر بمكتبة صغيرة بالقرب من بيتي، أقرأ كتابًا ما وأحتسي فنجان قهوة. وفي ليلة ماطرة، اشتهيتُ قراءة كتاب في تلك المكتبة، حيث الدفء يملأ المكان، توّجهتُ لأطلب كتابًا فإذا بفتاة أشاهدها لأول مرة تقدّم لي كتابًا يحتوي على العديد من القصائد الشعرية، وكان جلّه يتحدث عن المطر.
تناولتُ الكتاب وقبل أن أتحدث لها قالت:
– أعرف أنك لم تطلب هذا الكتاب، إنه هدية مني لرواد المكتبة في هذه الأجواء الماطرة، لك أن تقرأ منه ما شئت لاحقًا، أرجوكَ تفضّل بالجلوس الآن، واستمتع بمشروب ساخن، إنها ليلةٌ مميزة، لقد قررنا الاحتفاء بروّادنا، فكل شيء اليوم مجانّي.
شعرتُ بالامتنان وسألتها:
– هل من مناسبة أخرى غير المطر للاحتفاء بالقرّاء وروّاد المكان؟
أجابت والابتسامة الأنيقة ترسم محيّاها الجميل وطلّتها البهية:
– في الحقيقة؛ نعم؛ فاليوم يصادف الذكرى الخمسين لتأسيس مكتبتنا، لقد أنشأها والدي قبل خمسين عامًا وأنا ورثتها بعد رحيله.
– إنها مناسبةٌ عظيمة، ومكان دافئ وجميل، لقد تشرّفت بمعرفتك، أشكر لكِ هذا اللطف الكبير، وأثمّن لك هديتكِ القيّمة، فأنا أحب تبادل الكتب والإهداءات، ويبدو أنه شعر جميل.
-أهلًا ومرحبًا بك على الدوام، إنه مكانك في أي وقت.
يا لها من فاتنة، وأنيقة، وجميلة، وما أجمل كلامها الرطب! قلت في نفسي بعد أن قررّت أن أكمل الطريق إلى البيت مشيًا على الأقدام غير مهتم بالمطر الغزير الذي لم أشعر به ولم أشعر بأي برودة في جسدي، إنها المرة الأولى التي أشعر فيها بالسعادة والنشوة مذ وطأت قدماي هذه البلاد.
في تلك الليلة الطويلة لم يراودني النوم بتاتًا فأنا كنتُ مشغولاً بالتفكير في فتاة المكتبة التي أشعلت النار في قلبي بعد طول تغرّب وشحوب عاطفي، وقلت في نفسي: يبدو أنها تمتلك ثقافة عالية وحسًا أدبيًا مرهفًا، سوف أرتاد المكتبة يوميًا لأن الشعر صار يستهويني.
وبالفعل صرت ركنًا أساسيًا من المكان؛ حتى روّاد المكتبة والزائرين صاروا يعرفونني، والحقيقة أن أوجاع الغربة بدأت بالتلاشي من جسدي، وصرت أُحس أنني قوي ونشيط ومُقبل على الحياة ومُحبًا لها، وكنا نتبادل الحوارات والنقاشات الأدبية، حتى قمت بالتعاون معها في إنشاء صالونِ أدبيِ نهاية كل أسبوع.
لكنّه الحب بدأ يشتد وقعه في فؤادي، وصارت فتاتي تشغل عقلي وروحي، فقررت أن أكتب لها أشواقي ومشاعري ضمن رسالة، حيث سيكون القرار بيدها أن تكون الرسالة الأولى أو الأخيرة.
وراح القلم يكتب:
” اخبزيني بين يديكِ مثل خبز الطابون كي أشتهيكِ أكثر، اخبزيني كأمي القديمة ناظمةً وقعَ الأرغفة الساخنة. كنتُ أكتفي برائحة الفرن طعاماً، كنت أكتفي بلقمة أمي الساخنة وبخور جارتي العجوز، لكنكِ وأنا في اغترابي تصبين السحر كالمطر، وتشعلين فيّ الدفء، ووسط العواصف أنحني للريح. ساحرة أنتِ توجعين همسي فأضطر عزفكِ لأحاول النجاةَ، لكنني جسرٌ معلقٌ بينكِ وبين خبز أمي وملح بلادي، خافقة معالمُ وجدكِ، مُشرعة للريح أحلامي بكِ. تُطلينَ مِن بينَ ثنايا القمر الساهر فوق أرضي اليباب فأعلو مِن بين عطركِ أشمُ البلاد وأصلي داخل عينيكِ، وأغفو في عينيكِ معالمَ وطني يُنشد تاريخًا من المجدِ، وفي شدو شَعركِ يطلُ حمامُ قريتي البعيدة يُعانق ظلكِ البهيّ. إني بكِ مغرمٌ والقلب حيران يشتهي على الدوامِ وصلكِ”.
في الصباح قبلتُ دعوتها لاحتساء القهوة، أمسكت يدي بشدة وأطالت النظر في عينيّ اللامعتين، وسألتني:
-هل تذّوقت الحب يومًا؟
قلت: نعم. طيبٌ مثل زيت البلاد، كريم مثل حليب الأمهات، لذّة مثل خمر الجنان. وأنتِ؛ هل جرّبتِ الحب يومًا؟
قالت ودمعة في مقلتيها:
– نعم. علقمٌ مثل صبر المغترب، مرٌّ مثل كلام الناقمين، ثملٌ مثل شراب السكارى.
وبعد صمت جليل أكملت:
– لكن قلبي يعرف الطيب والكرم، ويعرف أنه يحتاج وصلكَ، أنا ذاهبة معكَ إلى أقاصي الأرض، فكن لي مثل الزيت ومثل حليب الأمهات.
وبعد هذا الحب الكبير مضت السنوات الطويلة، وقلت لشريكة روحي التي أُحبها:
– هل أنتِ ماضية معي حتى آخر نبض؟ لأني ماضٍ إلى بلادي البعيدة التي أنجبتني واشتقتُ لها.
– نعم، أنا ذاهبة معكَ حتى النهاية.
– لكن بلادي مثقلة بالأحزانِ والأوجاع، ولا تطيقين آلامها؟
– أنتَ بلادي التي أنتمي إليها. أنا سائرة معك.
– أنتِ مرهفة الحس ولن تقوي على معايشة الحدث.
عندما وصلنا من سفرنا الطويل، صلّيت وقبّلت أرضي، وذرفتُ دمعةً، واستكملنا المسير إلى بلدتي الصغيرة، وبدأت أكفكف دموع كلينا، وقلت لها والحزن والشوق يعتريان الفؤاد:
الآن عرفتِ أين أقطن وأين أعيش، في ذلك الشارع المزوي والخلفي الضيق الموسوم بالتعاسة والبؤس، إنه شارعي الذي كنتُ أقصده صباح كل يوم كالغرباء، لأني أدركُ أني لو بقيت للحظاتٍ سأحمل شقاءً إضافياً كل يوم.
كانت العجوز بانتظاري كما وعدتني، لكن الهرم أكل منها الكثير، لكنها نظرتها كما هي، يدها ما تزال قاسية، إنها مثل شجرة باسقة، مترٌ واحدٌ هي عتبة الدار، مطلة على الشارع البائس تقوم بنشر مصدر رزقها، خبزٍ ناشفٍ يكاد يملأ الجانب كله للشارع الفقير الصغير تكدّسه في أكياس كبيرة كي تبيعه للرجل المتجول كل يوم، تبيعه بثمن زهيد لتشتري بدلاً منه خبزاً طرياً.
اقتربت منها وهي تقوم بتنظيف الجزء المتسخ من الشارع. وكانت هذه المرة تتحدث مع نفسها وليس مع المارقين من أمام بيتها، حاولتُ كعادتي استراق السمع وإذا بها تتحدث مع ابنها المتوفى منذ زمن بعيدٍ عن كل حكاية صغيرة أو كبيرة يومية ترويها له كأنه أمامها مباشرة، ولم تعلم بعد بأن عظامه أصبحت مكاحل. هذا هو برنامجها اليومي، تختم حديثها الصباحي مع ابنها ومع نفسها، ” يا ليتنا متنا في الحرب ولم نر هذه الأيام الغبراء “، يا ليت !