د. مهند العزة
التغيّر الحسي الناجم عن فقدان حاسة البصر التي تلاشت تدريجياً حتى تم فصلها تماماً ونزل القاطع عند سن العاشرة بسبب انفصال في الشبكية وليس بفعل طائر رُخّ أو لقلق حطّ على خصلة شعري كما حدث عندنا منذ شهرين حينما انقطع التيار عن عموم الديار، لم يكن التحدي الحقيقي الذي جابهته في انتقالي من عالم المرئيات إلى عالم الصوتيات والتخيلات، حيث أن ما كان عصيّاً على الفهم حقّاً هو تصورات الناس عن الإعاقة بوجه عام والإعاقة البصرية على وجه الخصوص، وأسئلتهم العبقرية التي ل تخطر على بال العفاريت.
“ممكن تدعيلنا يا شيخ؟”، أولا، لقب “شيخ” هو علامة تجارية مسجلة اعتاد الناس على استخدامها اسم نداء لكل شخص كفيف بغض النظر عن دينه وتوجهاته، فقد كان بعض أصدقائنا من العازفين من المكفوفين يعملون في ملاهي ليليّة في عمان في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي؛ يقصّون علينا كيف كان الزبائن يطلبون منهم تقاسيم على مقامات شجيّة مثل الصبا والبياتي والحجاز، وحينما يفعلون وينتهون، يصفقون لهم وسط مقارعة الكؤوس وصيحات الإعجاب: “الله… الله… يا شيخ، بارك الله فيك يا مولانا”، ثم في نهاية السهرة يتوجهون نحوهم طالبين منهم الدعاء لهم بالغفران والهداية، في ما يبدو أنه محاولة لتبنيج وخزة الضمير الذي يستيقظ عند مطلع الفجر وسماع الآذان الأول يتردد في الأرجاء بينما هم يترنّحون عائدين إلى منازلهم، وكان أصدقاؤنا -جزاهم الله خيراً- يلبّون فيرفعون أكف الدعاء إلى السماء متضرعين من أجل زبائنهم حتى لا يغضب منهم صاحب الملهى.
“كم تحفظ من القرآن يا شيخ؟”، سؤال حتمي يومي كنّا نُسأل عنه من كل من يصادفنا ويتطوع لمساعدتنا على عبور الطريق أو اجتياز البروزات والأعمدة والحفر والنُقَر التي كانت تتركها أمانة عمان مشكورةً -وما تزال- على الأرصفة لتعويدنا على ممارسة الرياضة وتحديداً رقصة الشمبانزي، ولا أذكر أنه ولو لمرة واحدة سبق هذا السؤال استفسار عن ديانتي، فالكفيف مسلم حتما، إذ لا ينعم الله على غير المسلمين بكف البصر، وسألت أحد أصدقائي من المكفوفين المسيحيين إن كان قد سأله أحد “كم تحفظ من الإنجيل”، فأخبرني أنه دائماً يُسأل “كم تحفظ من القرآن”. والواقع أننا بتبادل المعلومات والخبرات في ما بيننا أثناء جلساتنا وسهراتنا التي كنّا نروي خلالها نوادر ما يحدث معنا، توصلنا إلى قاعدة ذهبية بهذا الشأن؛ فحواها أنه من الكياسة أن تجيب مهما كان حقيقة ما تحفظه من القرآن الكريم ومهما كانت ديانتك بأنك تحفظ جزئين أو 3 على الأقل، إذ جرّبت مرة أن أثور على هذا السؤال النمطي وأحبط سائلي وكنت حينها في الرابعة عشر من عمري حينما كذبت على أحد من تطوعوا للسير معي إلى مجمع رغدان حيث سألني هذا السؤال الموعود المعهود، فأجبته مؤكداً أنني لا أحفظ أي شيء من القرآن الكريم، فتوقف وسألني والدهشة تعتريه: “ولا سورة؟”، فقلت بحزم: “ولا سورة”، فترك الرجل يدي التي كان يمسكها وأبعدها عنه باشمئزاز، وبدأ يوبّخوني ويعايرني ب”الشيخ اسماعيل الكفيف” جارهم الذي يحفظ 21 جزءً من القرآن، ثم تركني في وسط الطريق أواجه مصيري مع البسطات والسيارات والمناهل التي تنفث عَبَق بخارها في وجه العابرين.
” هل يمكن أن تتزوج وأنت كفيف؟”،كثيراً ما كان يتردد هذا السؤال الذي ينطوي على استفسار ضمني عمّا إذا كان كفّ البصر يتعارض أو يؤثر على النشاط الجنسي للشخص، والمشكلة أن الإجابة النموذجية على هذا السؤال تكمن في سؤال مقابل كنت أتردد في طرحه: “هل تعتقد أن الجهاز التناسلي للشخص الكفيف يقع خلف حدقة العين مثلا؟”.
“على الجامع الحسيني طبعا”، هذه العبارة كان يسمعها كثير من أصحابنا وهم يسيرون في وسط البلد وهم ذاهبون باتجاه موقف رغدان أو في الاتجاه المعاكس صوب موقف سرفيس المهاجرين في أول سقف السيل للذهاب إلى الجامعة أو وظائفهم أو إلى متجر أو مقها، حيث يمسك بيدك أحدهم لمساعدتك فيُيَمِّم بك شطر المسجد الحسيني دون أن يمنحك فرصة للتنفس، حيث يربط عدد من الناس بين كف البصر والتسول دون التفات لمنظرك ومظهرك، فحتى لو كان لباسك حرير وقبعتك كشمير، وحذاؤك من جلد الغزال وفي يدك أساور وفي قدمك خلخال، فأنت لا محالة متسوّل، وبما أنك في وسط البلد، فأنت حتماً ذاهب إلى مقر عملك وهو المسجد الحسيني لتستظل جدرانه وتترزق من روّاده وجيرانه، ويا نيالك يا فاعل الخير.
صديقنا أبو يزن الذي كان يعمل واعظاً في وزارة الأوقاف، كان يجلس في مطعم في وسط البلد بعد أن فرغ من الصلاة وأراد أن يختلي بنفسه ويتناول طعام الغداء ويتأمل في هذا الكون علّه يصل إلى كنه الحكمة، فأشعل سيجارةً وأخذ منها نفساً عميقاً ثم نفثه مع تنهيدة هادرة، ليقطع عليه صوت باهت النبرة تأملاته سائلا: “طيب كيف بتستمتع بالسيجارة وأنت مش شايف الدخان يا شيخ؟”، فصمت الشيخ برهةً وأخذ نفساً أعمق من النفس الأول، ثم نفثه باستطالة، وأجاب بصوته الرخيم وبرود أعصابه القاتل: “والله يا أخي… زي ما تقول… بشوف الدخان بقلبي”.
هذه السلوكيات عشناها أطفالاً وشبابا، وشهدنا كيف بدأت تتقلص نوعاً ما مع انفتاح المجتمع على العالم ومعاينة تجاربه من خلال الفضائيات والإنترنت، ومع ذلك، فثمة قوالب وصور نمطية ما زالت تحكم نظرة البعض لكل مختلف سواءً كان من ذوي الإعاقة أو النساء أو العمال الوافدين أو اللاجئين أو الأطفال أو كبار السن أو حتى من منطقة خارج نطاق إقامتنا، ولا سبيل للقضاء عليها إلا بتنشئة جيل صاعد يؤمن بأن الآخر هو صاحب الحق الحصري في التعريف بنفسه وشرح كينونته وإبراز هويته، وأن السؤال مفتاح المعرفة وليس مورد الهلاك، وإلا فسوف نظل نجابه بعضنا بعضاً بأسئلة أصعب وأغرب من الأسئلة التي أبكت طلبة التوجيهي وأسرهم في امتحان الفيزياء.