د. مهند العزة
سقطت اليوم ضحيّة رأي جديدة في براثم جماعة الإرهاب الفكري الذين باتوا يمثّلون القاعدة التي لا تقبل استثناء، لأنهم يرون في كل مخالف بل حتى في المحايد الذي يعزف عن عزفهم النشاز مارق أو زنديق يستوجب العقاب ثمّ الإقصاء.
منشور د. وفاء الخضراء حول أضاحي العيد وردّة فعل العديدين عليه ممن اختزلوا الدين في الأضحية فاتهموها ب”الإساءة للإسلام… والمساس بإحدى شعائره المقدّسة… والتطاول على عموم الدين…”، يؤكّد المؤكّد من أننا نعيش حالةً من ثقافة الصوت الواحد والمرجعية الأحادية لمنظومة الأخلاق والقيم التي يتم تلبيسها للكافة بغض النظر عن مدى ملاءمتها لهم أو للزمان والمكان، على نسق “One size fits all”.
الفريق الذي وجد في ردّة الفعل الغوغائية على منشور الخضراء فرصةً جديدةً للتعبير عن سخطهم على لجنة تحديث منظومة الحياة السياسيّة من خلال اغتيال شخصيّة عضو آخر من أعضائها والمطالبة بإقالته فورا، تماماً كما حدث مع الكاتب عريب الرنتاوي، ليسوا هم جوهر المشكلة، لأنّهم في نهاية المطاف مكيافيليّون لا يعبؤون بنظافة أو قذارة الوسيلة طالما رأوا فيها سبيلاً قد يحقق غايتهم، ولا يعنيهم كثيراً مضمون منشورها الذي ربما لم تطّلع عليه غالبيتهم، بل أنّهم حتى لا يكترثون لعضويّتها في الّلجنة، إذ يمثلُ سخطهم على هذه الأخيرة ؛ تعبيراً عن موقف مسبق ومطلق ناقم ورافض لكل ما يصدر عن النظام والدولة.
ثمّة فريق آخر -يمثّل الإغلابيّة- انقاد كما هي العادة خلف مجموعات الإرهاب الفكري على وسائل التواصل الاجتماعي، فرأوا في السيدة تجسيداً ل”المآمرة الكونيّة التي تستهدفنا”، وإياكَ أن تسأل ما الذي عندنا يخيف الكوكب ويرعبه لكي يستهدفنا من أجله؟ لأنك بذلك تضيّع على شلّة الماسوخيين لذّة الإحساس بالاطهاد والمظلومية التي لم يتبقَ لهم سواها ليشعروا بقيمة وجودهم، المهم أن أي تساؤل أو طرح إحدى “المسلّمات” للنقاش؛ ما هي إلا “محاولة لتقويض العقيدة والعبث بالثوابت”.
الفريقان من مجاهدي التغريدات والبيانات في نهاية المطاف تجمعهما غوغائيّة ردّة الفعل التي دائماً وأبداً لا يمكن أن تناقش الفكرة أو الرأي بموضوعيّة، وإنما تعند فوراً لمهاجمة الشخص وتجهيله أو زندقته وربما تكفيره، وهذا بطبيعة الحال مرجعه الافتقار الإنساني والمنطقي لتبرير بعض الممارسات أو النُقول التي تتعارض مع سجايا البشر التوّاقة بطبيعتها للمساواة والعدالة والرأفة والرحمة وغيرها من القيم التي تتعرّف عليها النفس البشريّة وتستشعرها دون أن يقوم أحدهم بتقطيعها وتعليبها وتقديمها جاهزةً لتؤكل وتُهضَم عنوة؛ مع حرمان من يتجرّعها حتى من حقّه في التعبير عن مرارة مذاقها وغصّتها في نفسه.
إذا قامت لجنة تحديث منظومة الحياة السياسيّة بارتكاب ذات الخطيئة وأقالت الخضراء من عضويتها، فإنها تكون بذلك قد استكملت الركوع أمام هؤلاء الإرهابيّون الاستئصاليّون، وعندها ربما كان من العملي أن تقيل الّلجنة نفسها إلا من أعضائها المنتمين لجماعة الأخوان المسلمين والتيارات الفكرية المتطرّفة، لتعيد تشكيل نفسها بفتح أبوابها للمكارثيّين الاستئصاليّين وللناقمين عليها بسبب عدم ضمّهم إليها أو عدم رضاهم عن كل من لا يعتنق آرائهم الفكرية أو العقائديّة أو السياسيّة من أعضائها.
قد يرى البعض أن وفاء الخضراء لم توفَّق في اختيار توقيت نشر رأيها بوصفها عضواً في لجنة تحديث منظومة الحياة السياسيّة التي يتربّص بها الكثيرون إما ريبةً أو غيلة، هذا فضلاً عن الانحسار المضطرد في أفق الاختلاف والحوار المتحضّر، لكنها من وجهة نظري ارتكبت خطيئةً كبيرةً بحذف منشورها وإغلاق صفحتها رافعةً الراية البيضاء أمام الظلاميّين المتفاخرين بحرق مكتبة كسرى والتنكيل بالحلّاج وابن المقفّع وابن رشد والرازي ومحمود محمد طه وفرج فودة وناهض حتر وبكل مفكّر وفيلسوف ومخالف.