مرايا – كتب : د. مهند العزة
الفتوّة في روايات الراحل نجيب محفوظ كانوا أقلّ حظّاً ولكن أكثر شرفاً من فتوّات يومنا هذا، إذ كان المسكين في الغالب يتوجب عليه منازلة ومكاسرة فتوّة منافس، لتنتهي المعركة بكس نبّوت (قنوة) المغلوب مع تهليل سكّان الحارة وبلطجيّتها الذين يصفّقون لكل غالب، لتبدأ رحلة أخذ الإتاوات من السكّان المطحونين وترك فتاتها للبلطجيّة الذين يركبون كلّ موجة وينحنون مع كل عِوَجة.
بينما كان فتوّات حملات التوحّش والتطهير الفكري يغسلون أيديهم الملطّخة بسمعة ومكانة آخر ضحاياهم نهاية الأسبوع الماضي استعداداً لاغتيال الضحيّة التالية معنوياً وفقاً للترتيب الوارد في قائمة الاغتيالات التي تداولوها عبر وسائل التواصل الاجتماعي ومجموعات الواتساب… وذلك على هامش الاحتفالات التي أقيمت مساء يوم السبت بعد الإعلان عن خبر استقالة د. وفاء الخضراء، تواصل معي أحد سكّان الحارة المتأثرين بجَعير الفتوّة، بادئاً حديثه بصراخ مفتعل معلناً عن غضبه ورفضه لكل ما كتبته خلال المذبحة الافتراضيّة التي تم تنفيذها ضدها، وعبّر عن خيبة أمله وتغيّر رأيه بشخصي… ثم جاء المهم في حديثه، إذ نقل لي رسالة تهديد واضحة وصريحة من فتوّات وصفهم هو ب”مجموعة من النشطاء الإعلاميين” الذين اجتمعوا في وكر أحدهم لتداول أمري والتخطيط للبدء في تحرّك منظم ضدي؛ يبدأ بحملة واسعة لمقاطعة إعلاميّة للمؤسسة التي أعمل بها ثم حشد التأييد والتحريض لطردي من وظيفتي، مختتماً رسالته بمنحي فرصةً للنجاة إذا ما قمت صباح السبت وقبل بدء تنفيذ اغتيالي معنويّاً بنشر مقالة أعلن فيها توبتي وتراجعي عن مواقفي وإعلان البيعة لفتوّات الحارة!
استوعبت الرجل الذي هو من وجهة نظري حسن النيّة وليس من بلطجيّة الفتوّة، وإنما من سكّان الحارة المُغرَر بهم المغلوبون على فكرهم، وطلبت منه إبلاغ شلّة الفتوّات أن لهم كامل الحقّ في التحرّك في أي اتجاه، ومن جهتي سوف أعينهم وأساعدهم بالترويج لهم ونشر أسمائهم وتوثيق حملتهم محليّاً وإقليميّاً ودوليّا والذهاب بالنزاع المفتعل بيني وبينهم إلى ساحات القضاء لتسطير سوابق تعلن الدوّلة من خلالها رؤيتها وموقفها من حريّة الرأي والتعبير وحملات التطهير الفكريّة واغتيال الشخصية لكل مخالف.
المروّع في هذه القصّة تجاوز قيادات الإرهاب الفكري كلّ الخطوط وعدم التورّع عن مساومة مخالفيهم على آرائهم ليس بالتراجع عنها فحسب بل مطالبتهم بتبنيّ عكسها وإلا ذاقوا مرارة الإقصاء وباتوا عرضةً للاغتيال المعنويّ الذي قد يفضي في سياقاتنا وآفاقنا المنغلقة إلى الاعتداء على سلامة الشخص أو حياته كما حدث مع عدد من الكتاب والمفكرين من قبل في الأردن ومصر والسودان وغيرها، الأمر الذي دفع دولة رئيس الوزراء إلى إطلاق تصريحه المتوازن والضروري بداية هذا الأسبوع الذي أعلن فيه عن وقوف الدولة بحزم في وجه حملات التنمّر والاغتيال المعنويّ.
روى أستاذ القانون الدستوري لنا ونحن في السنة الأولى في كليّة الحقوق قصّةً -لست متأكد من دقّتها- تقول أن المستشار بسمارك كان قد نشب نزاع بينه وبين أحد المزارعين على قطعة أرض، فقال المزارع لبسمارك مجابهاً سلطانه وجبروته: “في ألمانيا قضاة”، تعبيراً عن يقينه أنّ مرفق العدالة في بلده سوف ينتصر له طالما كان الحقّ والدستور والقانون في جانبه، ونحن بدورنا نعتقد جازمين أن في الأردن قضاة يعلون الدستور والقانون بتنزّه تامّ عن التأثر بحملات التشهير والتطهير الفكري التي ينظّمها البعض ويشنّها لغايات سياسيّة في المقام الأول موظّفين العاطفة الدينيّة لدى الجماهير لتحويل مصالحهم الضيّقة إلى قضيّة رأي عام.
فتوّات التطهير الفكري سوف يظلّون حجر العثرة في طريق أي إصلاح تشريعي أو سياسي، لأن سيادة القانون وحريّة التعبير والإبداع واحترام الرأي الآخر وثقافة الحوار… جميعها قيماً تتعارض مع تكوينهم الثقافي وتكشف عورته وعواره، فالبيئة الوحيدة التي يمكنهم البقاء على قيد الحياة فيها هي حارة “المغلوبين على فكرهم”، حيث يتنفّسون عنفاً ويَنطِقون سُخفاً ويُنتِجون إرهاباً وخوفا.