كتب : د. مهند العزة
“تكفل الدولة حرية الرأي، ولكل أردني ان يعرب بحرية عن رأيه بالقول والكتابة والتصوير وسائر وسائل التعبير بشرط ان لا يتجاوز حدود القانون”.
هذا النص الوارد في الفقرة (1) من المادة (15) من الدستور الأردني، واحد من النماذج التشريعية التي تجسّد الشّيء ونقيضه مما يزخر به الدستور، حيث يبدأ النص بالاعتراف بالحقّ للمواطن، ليذيّل بتقييده بألّا يتجاوز ذلك “ما يسمح به أو يجيزه القانون……”، في مشهد أكروباتي نادر يتشقلب فيه السلّم التشريعي فيغدو القانون متربّعاً على قمّته بينما الدستور تحته مستقبلاً ما يفيض به عليه من قيود.
التعديلات الدستورية الخجولة لعام 2011 التي جاءت لغاية سياسيّة احتوائيّة على وقع ارتدادات “الربيع العربي، حاولت تدارك هذا العوار الدستوري فأفردت فقرةً خاصةً في المادة (128) تنص على أنه: “لا يجوز أن تؤثر القوانين التي تصدر بموجب هذا الدستور لتنظيم الحقوق والحريات على جوهر هذه الحقوق أو تمس أساسياتها”.
لم يَحُل هذا التعديل الفضفاض دون استصحاب الوضع الذي كان سائداً قبل إقراره من حيث افتاءات العديد من القوانين على جوهر الحقّ وأساسياته، إذ يبدو هذا جليّاً في ما يسمى بـ “جريمة تعكير صلات المملكة بدولة أجنبية” التي نصّت عليها الفقرة (2) من المادة (118) من قانون العقوبات التي جاء فيها: “يعاقب بالاعتقال المؤقت مدة لا تقل عن خمس سنوات…: 2 –من أقدم على أعمال أو كتابات أو خطب لم تجزها الحكومة من شأنها أن تعرض المملكة لخطر اعمال عدائية او تعكر صلاتها بدولة اجنبية او تعرض الاردنيين لأعمال ثأرية تقع عليهم او على أموالهم”.
هذه “الجريمة” التي تعتبر أيضاً من الأعمال الإرهابية وفقاً لقانون منع الإرهاب النافذ؛ يتطلّب وقوعها توافر عناصر عدّة جميعها شخصيّ التقدير بعيد كل البعد عن الموضوعيّة. فلا بد في المقام الأول أن يكون هناك صلات تتسم بالصفاء بين الأردن والدولة الأجنبية، ثم ينبغي أن يقدم أحدهم على كتابة مقال أو منشور أو رسم كاريكاتيريّ أو لوحة أو إلقاء خطبة أو كلمة أو إطلاق تصريح… أو أي عمل مهما كانت طبيعته؛ يفضي إلى “تعكير صفو العلاقات مع هذه الدولة”، الأمر الذي يتحقّق غالباً إذا انطوى العمل على نقد يتناول رئيس أو ملك هذه الدولة أو نظامها أو سياساتها أو أحد مسؤوليها… ثم لا بد أن تكون هذه الأعمال سالفة الذكر ” لم تجزها الحكومة” لكي تكتسب وصف الفعل الجرمي، دون توضيح لكيفيّة الحصول على “إجازة الحكومة” لها، فهل المقصود أن يرسل الكاتب أو الرسّام أو الخطيب أو المحلّل السياسي أو الناشط على مواقع التواصل الاجتماعي عمله الإبداعي أو مقالته أو تصريحه أو المنشور أو التغريدة… قبل نشرها لجهة ما في الدولة لكي تراجعها ثم تجيزها؟ وما هي تلك الجهة؟ وما هي معاييرها لإجازة العمل أو منعه؟
ثمّة سؤال محوري آخر تلعب إجابته دوراً حاسماً في تحديد وقوع “الجريمة” من عدمه، ألا وهو: متى تكون صلاتنا بالدولة الأجنبيّة أصلاً صافيةً مثل الماء الزلال؟ ثم من ذا الذي له القول الفصل في ما إذا كان العمل المرتكب “كتابة…. خطاب… رسم… سكتش كوميدي…” من شأنه تعكير هذا الصفو؟
التجارب العمليّة تشير إلى أن “تعكير الصلات” بالدول الأجنبيّة أمر متغيّر تحكمه عوامل متعدّدة أهمها طبيعة النظام والثقافة السياسيّة السائدة في الدولة المستهدفة بالنقد، فانتقاد الرئيس الأمريكي مثلاً من قبل كاتب أردني أو تناوله بكاريكاتير ساخر لن يعكّر صلاتنا بالولايات المتّحدة الأمريكيّة التي لا يمكن أن تغضب من هذا الفعل وتطالب باعتقال الرسّام أو الكاتب لأنها بذلك تناقض قيم الديمقراطيّة والحريّة التي تتبناها وتطبقها داخليّاً وتقول أنّها تسعى لترويجها وتطبيقها في دول العالم، والأمر نفسه بطبيعة الحال بالنسبة للدول الديمقراطيّة الأخرى التي تحترم قيمها وشعوبها. بينما انتقاد ملك أو رئيس أو رئيس وزراء أو وزير أو مدير أو شيخ/عالم سلطة أو مرافقيهم أو سائقيهم أو طهاتهم… في دول الصوت الواحد والسلطة الوحيدة؛ سوف يثير حفيظتها ويجعلها “تَحْرد” وتقاطعنا وربما تُجلي كل من يقيم على أرضها من الأردنيين.
الشاهد أنّ صديق اليوم لا يجوز تناوله بأي نقد حتى لو كان دكتاتور ومجرم حرب ولصّ يشار له بالبيان والبنان، إلى أن يصبح خصماً أو محايدا، وقد رأينا أثناء بعض الأزمات الإقليميّة كيف استيقظ جانب من إعلامنا الرسمي -الّذي لم يكن يجرؤ على انتقاد ورشة تصليح سيارات في المدينة الصناعيّة-من بياته الأزلي، فتناول أنظمة وزعامات بعض الدول التي كان رؤساء التحرير يقرؤون سورة ياسين وآية الكرسي 3 مرات قبل أن يضعوا أسماء قياداتها في جملة مفيدة، وقسّ على ذلك وتلطَّف.
هذه “الجريمة” تم تفصيلها لتكون ترضيةً سياسيّةً للدول التي تهاب الكلمة ويروّعها الرأي، وهي في الحقيقة وصمة في جبين منظومتنا الحقوقيّة وسبّة في حقّ الأنظمة التي وضعت لاسترضائها، فكأنّي بالمشرع عندنا يقول لها: “نامي قَريرة العين، فقد راعينا استبدادك وضيق أفقك وبغضك لحريّة الرأي والتعبير والنقد، فوضعنا ما يرهب كل من يفكّر المساس بنظامك الهش الذي يخشى الكلمة والرسمة”.
لا تجرؤ دول الصوت الواحد على معاتبة أياً من الدول الديمقراطيّة -حتى تلك التي لا تتمتع بقوّة اقتصاديّة أو عسكريّة وازنة-بسبب انتقاد مهما كان قويّا، لأنّ هذه الدول لا تساوم على قيمها وحقوق مواطنيها لاسترضاء الزبون، لذلك فإنّ الأردن بحضارته ورقي شعبه وقيادته؛ يستحق هذه المكانة العليّة التي يحافظ فيها على مصالحه مع الدول الأجنبيّة بالطرق الدبلوماسية دون المساومة على حقّ أو حريّة دستوريّة.