كتب : الدكتور رجائي المعشر
يؤكد جلالة الملك في أوراقه النقاشية وفي معظم كتب التكليف السامي للحكومات المتعاقبة على ضرورة الانتقال إلى الحكومات البرلمانية المنبثقة من رحم مجلس نواب يكون أعضاؤه قد تم انتخابهم على أسس برامجية أو حزبية. وفي هذه المقالة سأحاول طرح مسار للوصول إلى هذه الرؤية الملكية.
قدم جلالة الملك في الأوراق النقاشية تصوراً واضحاً للأنموذج الديمقراطي الأردني توافقت عليه جميع القوى السياسية والمجتمعية وأصبح هدفاً يسعى الأردنيون إلى إخراجه إلى حيز التنفيذ.
يعتمد هذا الأنموذج الديمقراطي على المادة الأولى من الدستور التي تنص في آخرها على أن نظام الحكم في المملكة الأردنية الهاشمية هو “نظام نيابي ملكي وراثي” ومن هنا جاء الأنموذج الديمقراطي في الأوراق النقاشية الملكية ليؤكد على أن مجلس النواب الذي يضم ممثلي الشعب هو عماد هذا الأنموذج الديمقراطي وهو لذلك المنبر الذي تتم به الحوارات الوطنية للوصول إلى توافقات حول مجمل القضايا التي تهم المصلحة الوطنية العليا وتخدمها.
ومنهجية بناء الأنموذج الديمقراطي هي الحوار لأننا ما نزال نختزن أنماطاً من العصبيات يغدو معها الحوار ضرورة للحياة والتقدم. فالاختلافات هنا ليست كلها ذات طبيعة أيديولوجية يمكن حسمها عبر صناديق الاقتراع، إنما هي متشابكة ومعقدة لا يمكن تجاوزها، مع الحفاظ على الأمن والاستقرار والاستمرار بعمليات البناء، من دون تنازلات متبادلة في اطار توافق وطني. وكما يقول جلالة الملك “لا يمكن لفئة بمفردها تحقيق جميع الأهداف التي نسعى إليها، بل يجب التوصل إلى تفاهمات تتبنى حلولاً وسطاً تحقق مصالح الأردنيين جميعاً”.
وبناء الأنموذج الديمقراطي الأردني ليست عملية سهلة تتم بين عشية وضحاها. وكما يقول جلالة الملك “لا يوجد طريق مختصر، انه طريق يُبنى بالتراكم ويحتاج بشكل أساسي إلى مراجعة” تقوم على المعايير التالية:
1. احترام الرأي والرأي الآخر أساس الشراكة بين الجميع على أساس المساواة، سواء أكان في العرق أو الأصل أو الدين.
2. المواطنة لا تكتمل إلا بممارسة واجب المساءلة، فهي عملية مستمرة تتناول كل شؤون الحياة السياسة والاجتماعية والاقتصادية والخدمية.
3. متابعة المواطنين لوسائل الإعلام مع الحرص على تقصي الحقيقة والموضوعية والتعامل معها والتعبير عن آرائهم والتواصل مع ممثليهم في مجلس النواب والمجالس المنتخبة الأخرى.
4. “والمهم دائماً هو التوصل إلى حلول توافقية لأن الحلول المنفردة تجلب الصدامات إن لم تكن مستحيلة”.
تفرض الحقائق الجغرافية والثقافية نفسها على الأنموذج الديمقراطي الذي سيتم اعتماده. فالثابت أنه لا يوجد أنموذج ديمقراطي واحد يتناسب مع جميع الدول. فالأنموذج يجب أن يعكس بالمجمل التاريخ والثقافة الخاصة بالدولة كما يعكس وضعها الجيوسياسي، وهو فيما يتصل بالأردن بالغ التعقيد لارتباطه العميق بالقضية الفلسطينية. وهذا يتطلب عملية بناء أنموذج ديمقراطي بالتدريج، ولكن دون تباطؤ لأن الطريق للوصول إلى الحكومات البرلمانية كإطار لا بد منه لبناء الأنموذج الديمقراطي، وهذا يتطلب:
1. ظهور أحزاب وطنية فاعلة وقادرة على التعبير عن مصالح وهموم وأولويات المجتمع ضمن برامج وطنية قابلة للتطبيق وتكون هذه الأحزاب قادرة على الوصول إلى مجلس النواب وقادرة أيضاً على تشكيل كتل نيابية ذات قواعد شعبية صلبة.
2. ضرورة تطوير عمل الجهاز الحكومي على أسس مهنية ومحايدة وعدم تسييس جهاز الخدمة المدنية.
3. تطوير النظام الداخلي لمجلس النواب وبناء أعراف وتقاليد برلمانية تقرر نهج الحكومات البرلمانية.
جاء تشكيل اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية خطوة مهمة في بناء الأنموذج الديمقراطي وقد أوكل جلالة الملك للجنة المهام التالية:
1. وضع قانون للانتخابات يمكّن من إيصال الأحزاب إلى مجلس النواب.
2. وضع قانون جديد للأحزاب.
3. تقديم التوصيات حول النهوض بالإدارة المحلية للوصول إلى مشاركة المواطنين في صنع القرارات في الشؤون المتعلقة بحياتهم.
4. تمكين المرأة والشباب وزيادة مساهمتهما في النشاط السياسي والاجتماعي.
يشير واقع الحياة الحزبية في الأردن إلى عدم وجود أحزاب ذات قواعد جماهيرية بسبب عدم إقبال المواطنين على الانخراط في العمل الحزبي لأسباب مختلفة منها دينية أو عشائرية أو غياب الفهم الواضح من قبل المواطنين للأحزاب ودورها في الحياة السياسية وغيرها.
وفي غياب الأحزاب ذات القواعد الجماهيرية الواسعة فإن وصول الأحزاب إلى مجلس النواب يتطلب السير على مراحل متدرجة تسهم كل مرحلة في بناء تيارات وطنية قادرة على التحول إلى أحزاب ذات قواعد جماهيرية.
المرحلة الحالية (واقع الحال الآن) تشير إلى غياب الأحزاب عن مجلس النواب، وإن وجد حزبيون بين النواب، لكن الواضح أنه لا توجد برامج حزبية يتبناها النواب كما أن الحزبيين من النواب لم يتمكنوا من تشكيل كتل نيابية تتبنى برامج أحزابهم إن وجدت. لذلك نجد أن تشكيل الكتل في مجلس النواب لا يعتمد على البرامج والسياسات بل على العلاقات الشخصية المصلحية.
المرحلة الثانية تتطلب إعادة تنظيم مجلس النواب بحيث ينص نظامه الداخلي على إلزام النواب بالانضمام إلى كتل نيابية كما يلزم الكتل بالتحالف فيما بينها ضمن ثلاثة تيارات هي الوسط واليمين واليسار، وهنا يتحول مجلس النواب إلى منبر للحوار حول السياسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بين التيارات الثلاثة، بحيث يصبح بالإمكان التمييز بين مواقف وسياسات كل من هذه التيارات، وعندها يستطيع المواطن حسب قناعته أو قدرة التيارات المختلفة على اقناعه بوجهة نظرها من تفضيل تيار على آخر بما يساعده مستقبلاً على الانضمام للحزب الذي تنسجم سياسته مع قناعاته. وهذا التحول في مجلس النواب يتطلب بالضرورة إعادة النظر في أسلوب عمل المجلس عند قيامه بمهامه التشريعية، إذ يجب أن تبدأ القراءة الأولى للقانون بعد تقديم الحكومة سياستها حوله والأسباب الموجبة له، ويبدأ النقاش حول السياسة ذاتها وبعد ذلك يتم إحالة القانون إلى اللجنة المختصة لدراسته في ضوء المناقشات التي تمت في جلسة القراءة الأولى.
أما تمكين التيارات وبناء قدراتها على وضع البرامج والمناقشة العلمية للسياسات فيتطلب أن يلحق بكل تيار مكتب للدراسات تشرف عليه لجنة من أعضاء التيار وتوكل إليه دراسة سياسات الحكومة المقترحة وطرح البدائل لها، ويبين مدى انسجام مشروع القانون مع هذه السياسة، وأخيراً قدرة الحكومة وأجهزتها على وضع القانون موضع التنفيذ من خلال صدور الأنظمة والتعليمات وتحديد الاجراءات وتدريب الجهاز الاداري لتنفيذ القانون بصورة متكاملة.
وفي المرحلة الثالثة تكون مسؤولية التيارات الثلاثة وضع برامج اقتصادية واجتماعية وسياسية تكون نواة لبرنامج حزبي ينبثق عنها، كما تكون أساساً للبرنامج الانتخابي لمرشحي هذا التيار أو ذاك.
وفي المرحلة الرابعة وعند نجاح تجربة التحالفات داخل مجلس النواب ووضع برامجها المتكاملة يمكن أن تتحول هذه التيارات إلى أحزاب وطنية تتبنى البرامج المختلفة وتقوم بتشكيل قوائم وطنية تمكّن أكبر عدد من مرشحيهم للوصول إلى مجلس النواب، وعندها يبدأ عمل مجلس النواب على أسس حزبية.
إن هذه المراحل في رأيي تستطيع أن تبني أحزاباً وطنية ذات قواعد جماهيرية وبرامج واضحة.
أجد لزاماً علينا الاتفاق في الأساس على مفهوم الحكومة البرلمانية، فالحكومة البرلمانية في رأيي تعني حكومة تمثل برنامج التيار داخل مجلس النواب الذي يحظى بأغلبية الأصوات وتعمل على تحقيق هذا البرنامج بالتعاون الوثيق مع مجلس النواب. ولا تعني الحكومة البرلمانية بالضرورة أن تتشكّل من النواب أنفسهم بل من ممثلين يسميهم أعضاء الكتل في التيار أو في تيارين متحالفين حصلا على أكبر عدد من المقاعد البرلمانية، على أن يراعى في تسميتهم معايير الكفاءة والقدرة على الادارة وتنفيذ البرامج وليست المعايير الشخصية والمنفعية.
أعتقد أننا بحاجة إلى التدرج في مسعى وصول الأحزاب إلى مجلس النواب. فكيف للمواطن الاقتناع بأن يتم تخصيص كوتا للأحزاب أو القبول بقوائم حزبية على مستوى الوطن أو المحافظة وحالة الأحزاب هي على ما هي عليه اليوم.
إن تحقيق هذا المسار يتطلب تعديلات دستورية كما يلي:
1. ضرورة تعديل المادة 67 من الدستور بحيث يصبح انتخاب النواب انتخاباً سرياً مباشراً أو غير مباشر بهدف إعطاء الصبغة الدستورية لانتخاب القوائم أياً كان تسميتها.
2. إضافة مادة تنص بصراحة على وجوب تضمين النظام الداخلي لمجلس النواب إلزام الأعضاء بتشكيل الكتل وإلزام الكتل بالانضمام لواحد من التيارات السياسية الثلاثة اليمين أو الوسط أو اليسار.
3. بقاء مجلس النواب حتى انتهاء ولايته على أن تجري الانتخابات في الأشهر الأربعة التي تلي انتهاء ولايته من دون حل المجلس، وفي هذه الحالة لا تستقيل الحكومة بل تستمر في أداء عملها إلى حين إعلان قيام المجلس النيابي الجديد الذي يقوم بتسمية الحكومة وفق النهج الجديد.
4. انسجاما مع فلسفة تشكيل الحكومات البرلمانية كما تم شرحه آنفا فإنه في حال وقوع خلاف بين الحكومة ومجلس النواب يصل بهما إلى طريق مسدود يتم حل البرلمان واستقالة الحكومة معا وإجراء انتخابات جديدة ومن ثم تشكيل حكومة جديدة بحسب المبادئ المذكورة في النقاط الآنفة الذكر.
5. ضرورة تفرغ النواب لواجبهم النيابي حتى تزول عنهم كل شبهات تغليب مصالحهم الشخصية على المصلحة الوطنية.
وسيحدد الانتقال من مرحلة إلى أخرى عوامل عديدة، أهمها:
1. أن يعي النائب أنه نائب وطن يعمل على خدمة الصالح العام وقادر على فهم التوازنات المطلوبة بين المصلحة المناطقية المحلية والمصلحة الوطنية.
2. توضيح العلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية كما حددها الدستور بحيث لا يشوبها غموض يؤثر سلباً على هذه العلاقة، بمعنى آخر تحرير العلاقة بين السلطتين من المصالح الشخصية الضيقة.
3. التطوير المستمر للنظام الداخلي لمجلس النواب ليواكب متطلبات المرحلة ويساعد على الانتقال المنظم من مرحلة إلى أخرى.
4. تنظيم جلسات الأسئلة والاستجواب بين مجلس النواب والحكومة باسلوب يراعي الشفافية والمساءلة، وحق الحكومة في ممارسة صلاحياتها وحق مجلس النواب في الرقابة.
عند الوصول إلى المرحلة الرابعة فإن نهج تشكيل الحكومات ستفرضة معطيات تطور مجلس النواب وتشكيلاته وتحالفاته وستحدد بذلك برامج الحكومة التي ستتقدم بها للحصول على ثقة مجلس النواب وسيكون هناك معايير جديدة لاختيار الوزراء مبنية على كفاءة الشخص المسمى لموقع الوزارة وفهمه لبرنامج عمل الحكومة وقدرته على تنفيذ هذا البرنامج.
دروس من التاريخ:
جرت أول انتخابات لمجلس النواب في الأردن العام 1947 وضم المجلس في حينه مجموعة من رجال الوطن يجمعهم إيمانهم بالله، انتمائهم لوطنهم والتزامهم بالدستور وبنظام الحكم الملكي النيابي كما كان يوصف في ذلك الوقت. وقد شكل أعضاء مجلس النواب كتلا نيابية مختلفة كانت تعمل على تحقيق برامج سياسية واقتصادية واجتماعية وكانت الكتل النيابية تمثل تيارات فكرية ثلاثة: أولها تيار قومي اشتراكي وآخر وطني رأسمالي وثالث تيار اسلامي. وقد تطور أداء هذه الكتل لتصبح برامج وطنية سياسية اقتصادية اجتماعية تخاطب المواطنين من خلالها. فكان من الكتل من يدعو لإلغاء المعاهدة مع بريطانيا والاعتراف بالاتحاد السوفيتي، ومنها وبالرغم من بعدهم القومي رفضوا انضمام الضفة الغربية للأردن مطالبين بقيام دولة فلسطينية مستقلة. وقد تبلورت هذه التيارات إلى أحزاب وطنية حتى جاء مجلس النواب في عام 1956 ليكون أول مجلس نواب تتمثل فيه الأحزاب بصورة جلية وفاز تحالف اليسار المكون من الحزب الوطني الاشتراكي وحزب البعث والحزب الشيوعي بأكبر عدد من الأصوات، وطلب جلالة المغفور له الملك الحسين المعظم من المرحوم عبد الحليم نمر الحمود تشكيل الحكومة كونه يمثل الحزب الأكبر من حيث عدد نوابه في المجلس، إلا أنه اعتذر وأوضح لجلالة الملك بأنه ملتزم بقرار الحزب بأن يكون رئيس الحزب الوطني الاشتراكي المرحوم سليمان النابلسي رئيساً للوزراء في حال حصول الحزب على أكبر عدد من الأصوات بالرغم من أن رئيس الحزب لم يفز بالانتخابات. وهكذا كان، وتشكلت أول حكومة برلمانية حزبية في تاريخ الأردن.
تلك كانت تجربة الأردن الأولى في تشكيل الحكومة البرلمانية، ولعله من الضروري دراسة هذه التجربة والاستفادة منها في هذه المرحلة المهمة على مسار التنمية السياسية.