بهدوء
عمر كلاب
استكمالا لمقال الخميس عن الذاتية السياسية واوهام الاصلاح في ظل غياب الذاتية السياسية, واجابة على اسئلة كثير من القراء, افرد هذه المساحة لاستكمال النقاش, علّنا نصل الى نقطة تلاقٍ تخدم الفكرة وتحارب الاحباط السائد, فتوحيد المصطلح او على الاقل الفهم المشترك للمصطلح هو اساس عملية البناء الفكري, فلا يجوز ان نبقى نختلف على المعنى وبالتالي ينهار المبنى المطلوب.
أصبحت الانتفاضات والحراكات الشعبية منذ العام 2011, مصدر إلهام للناس في جميع أنحاء الوطن العربي تقريبا, لإعادة رسم الخرائط السياسية والاقتصادية وتغيير الظروف الاجتماعية في سعيهم لتحقيق قدر أكبر من العدالة, والاردن ليس خارج السياق العربي, بل ربما هو اول من اطلق شرارته, لكن جازى الله ضعف الحال وقلة الاعلام النافذ عربيا وعالميا, الذي منح الاشقاء في تونس وتاليا ميدان التحرير في القاهرة هذه الاسبقية.
كانت ابرز مظاهر الحراكات ومطالبها, ما اختصره الاشقاء في مصر بالشعار الثلاثي” عيش, حرية, عدالة اجتماعية” والثلاثية هذه لا تتحقق الا بتجويد التمثيل الشعبي ومشاركة الناس في الحكم, بعد أن نصّت معظم الدساتير العربية ومن ضمنها الدستور الاردني على ان الشعب مصدر السلطات او الامة, فكلاهما واحد في القوة القانونية, ولأن التمثيل يعني المجاميع, فقد استقرت التشريعات على ان افضل تمثيل هو الذي يختاره الناس لانفسهم بأنفسهم, فكانت الاحزاب اول ابتكار بشري بعد اختراع الديمقراطية.
فأصبحت هي ابرز ما يحقق التمثيل الشعبي وصولا الى البرلمان ومن ثم تشكيل الحكومات اي السلطة للشعب,اي اننا لن نخترع العجلة, ولن نكون نحن اصحاب براءة الاختراع, فالاحزاب بوصفها اداة التمثيل الاوضح هي القادرة على تخليق الذاتية السياسية للشعب الاردني, فهل هذا ما نفعله نحن اليوم, في غمرة هرجة الاصلاح والتمثيل الشعبي؟
بعد عقود من الهجوم على فكرة الاحزاب اساسا, وشيطنة كل منتمٍ لها, تستيقظ السلطة عبر ادوات تحديث منظومة الاصلاح على ضرورة الاحزاب, حدّ منحها كوتا مقاعدية في البرلمان القادم, اي ان السلطة ستقوم هي بتحديد ورسم ملامح الذاتية السياسية للشعب الاردني, وليس الشعب بإرادته الحرة, وأظن هذه اكبر مؤامرة على ذاتية سياسية جرت في التاريخ, بعد الاحزاب الشمولية, في الاتحاد السوفييتي ومنظومته الاشتراكية وبعد الاحزاب البعثية والاسلاموية والاحزاب الحاكمة في الاقطار العربية, وجميع التجارب سقطت بعد او في اول انبلاج فجر للارادة الشعبية.
ما يُريب, هو الحوافز المقدمة من سلطة ظلت على عداء مع الاحزاب تاريخيا, لتستيقظ فجأة على ضرورتها, غير مكتفية بالحوافز والمنح فقط, بل وبالتدخل في التركيبة الداخلية, فهناك حصة للشباب وهناك حصة للمرأة بل وهناك الزامية للاقليات المسيحية والشركسية بالتمثيل عبر الاحزاب, فهل كل هذا يمّكن الاحزاب فعلا, ام يجمع الناس على ارضية مصلحية وليس على ارضية برامجية كما هو المأمول؟
الاحزاب تتولد نتيجة حاجة جمعية للافراد, ودور السلطة هو توفير البيئة الحاضنة الآمنة لتخليق الاحزاب وليس اسقاطها من أعلى على نظام البراشوت الذي اسقط علينا مسؤولين خارج سياق المنظومة المجتمعية, ولهذا فإن ما يسود اليوم هو حالة تزاوج خلاسي بين الديمقراطية وتعميق اشكال الاستبداد السلطوي القائم, من خلال الدعوة إلى “انتقال منظم” للسلطة والتزكية بالحاجة إلى الديمقراطية من خلال الاحتجاج السلمي والمثابرة.
ان اول مطلب للناس كان التمثيل الحقيقي, وهذا يعني بالضرورة, انهاء جبروت السلطة الذي اكل الدولة, وانهاء تقديس السلطة, وانهاء الربط القسري بين السلطة وافعالها واعمالها, وبين رأس الدولة, وكأن اعمالها وافعالها قادمة من “فوق”, فالتمثيل الذي يحقق الذاتية السياسية, هو التمثيل الذي يأتي من سردية شعبية, مفادها الفصل بين الدولة ورأس الدولة, وتتحول العلاقة من ريعية ابوية الى علاقة تمثيلية, تحققها اختيارات الناس على اسس فكرية وبرامجية وليس على اسس منفعية ومصلحية, فهذا تأبيد للشكل القائم وتكريس لبشاعة السلطة.
omarkallab@yahoo.com