مرايا – كتب: د. مهند العزة
مشهد تعلق بعض الأفغان بأجنحة طائرة أمريكية تهمّ بالإقلاع هلعاً وهرباً من حركة طالبان الظلامية وسقوطهم قتلى على مدرج المطار، وما أثاره ذلك من تعاطف وحزن شديدين حول العالم، يتجاوز في دلالته مجرد كونه تصرفاً تلقائياً متوقعاً للفارّين بحيواتهم في أوقات الحروب والنزاعات المسلحة؛ إلى تجسيد وتأكيد بشاعة الغزو والإرهاب الذي يختطف أحلام الشعوب وينفيها في أرضها ويُغرِّبها في أوطانها، حتى لو تم ذلك تحت عناوين كهنوتية مثل: الفتح… والنصر على أعداء الدين… ودحر الكفار والمشركين.
أفغانستان التي قدّر لها أن تذوق مرارة النزاعات والحروب المحلية والإقليمية والدولية بالوكالة على أرضها منذ ستينيات القرن الماضي، كانت حتى الأمس القريب -وربما ستعود- وجهة “المجاهدين” وحاضنة الإرهابيين وابتهال وأنشودة الشيوخ المتطرفين المتقلبين الذين كانوا يمجدون مجرميها على منابرهم، داعين لهم مباهلين من يشكك فيهم، محرّضين أبناء جلدتهم على الهجرة إليها “مجاهدين في سبيل الله” بوصفها آخر معاقل “الجهاد الحق وسبيل نيل النصر المستحقّ”، بينما هم يستظلون بأستار الكعبة، يتجرعون ماء زمزم ويلوكون تمر عنبرة والصقعي ثم يستاكون مطهّرين أفواههم من بهتان القول وزوره، لينتهي بهم المطاف بعد أن انفضّ مولد الجهاد الأكبر ونُصِب مكانه سِرك الحداثة والتحرّر؛ مهرجين في مهرجانات الغناء وحفلات السَمَر، مبشرين المطربين الذين كانوا قبلها بأيام في فقههم “بوق الشيطان ومورد النيران وصبّ الآنُك في الآذان”؛ بأنّ أصواتهم “مزمار من مزامير داوود، وأنّ محبة الله لهم سخّرت الجماهير التي أحبّتهم وعشقت فنّهم”.
مَثَل عدد من كتاب ومحللين المناسبات كمَثَل هؤلاء الشيوخ، فهم يركبون الموجة ويتماهون مع الموضة فيُ سخِّرون أقلامهم لخدمة المصمم والممول، فحينما توسّع تنظيم لداعش وغزى سوريا بعد احتلال الموصل وإعلانه عن قيام “الخلافة الإسلامية” في نهاية حزيران/ يونيو 2014، انبرى عدد من الكتّاب في ما يشبه الترويج لتقديم هذه العصابة على أنها مختلفة تماماً عن أي تنظيم أو حركة إرهابية أخرى مثل القاعدة وجبهة النصرة -التي كانت متحدة معها أصلاً في البدايات- وغيرها من العصابات الإجرامية الإرهابية حيث أنّها: “أقوى شكيمةً… وأعز جنداً… ولديها مشروع واضح… وتمتلك كفاءات علمية وإعلامية متميزة… وبنيانها التنظيمي دقيق… وشعارها (باقية وتتمدد) ينم عن رؤية وعقيدة وهدف يتحقق على الأرض… ولديها فرص كبيرة لتجسيده في دول أخرى…”.
اتذكّر الحديث الترويجي لباحثّين “دويتو” كانا يقدّمان أنفسهما بوصفهما “خبيران في مجال الحركات الإسلامية” حينما كانت تلك هي الموضة الرائجة؛ حول تنظيم داعش عام 2014 في لقاء حواري دعاهما إليه رئيس مجلس الأعيان، حيث استفز بعض الأعيان وأنا من بينهم؛ التسويق المبطّن للحركة والمبالغة الفجّة في قدراتها وبنائها، وما زلت أتذكر كيف انزعج أحدهما -الذي تحول من سلفي جهادي إلى وسطي متصوف- وتهرّب من سؤال منطقي وجهه له العين صالح القلّاب عن مصدر معلوماته الذي يجعله يتحدث بثقة كبيرة عن “متانة التنظيم ومَنَعة بنيانه ودقّة تنظيم علاقاته وتقسيماته الهيكلية والإدارية وصعوبة قهره…”. في الآونة نفسها، ظهرت مجموعة كبيرة من المقالات والكتب والدراسات للباحثين نفسهما ولغيرهما -بعضها ممول من مركز الجزيرة للدراسات- تتناول التنظيم ومثيلاته من التنظيمات والحركات الإرهابية؛ بغلاف ظاهره التحليل والتأصيل وباطنه التسويق والتزويق.
قناة الجزيرة الفضائية بدورها كانت وما تزال تلعب دورها في وضع المساحيق على أوجه المجرمين الإرهابيين، فقد قام مذيع الجزيرة أحمد منصور سنة 2015 بإجراء لقاء يعدّ سقطةً ووصمةً في تاريخه المهني وتاريخ القناة التي أجرى اللقاء لمصلحتها؛ مع الإرهابي طريد العدالة أبو محمد الجولاني زعيم عصابة جبهة النصرة في سوريا، وكان اللقاء عبارة عن دعاية وتسويق سافر ل”وداعة الحركة… وعدالتها… وحكمة قائدها…”، هذا طبعاً بخلاف حيادية القناة حيال كثير من الجرائم التي كانت ترتكبها عصابتي النصرة وداعش بل المساهمة أحياناً بترويج “فضائل” العيش تحت لوائهما من خلال المقابلات وإذاعة التقارير والمواد الإعلامية التي كانت تنتجها الجزيرة أو تعيد بثّها من وكالة أعماق أو مجلة دابق التابعة لعصابة داعش وما كانت تنشره عصابة النصرة.
عودة طالبان التي احتضنت دوحة قطر زعاماتها إلى الواجهة واستيلائها على السلطة واختطافها للشعب الأفغاني، قد تكون فرصة لكتّاب المناسبات وإعلاميي الأزمات لتعويض الفاقد الوظيفي لديهم الذي تسببت فيه حالة الركود الإرهابي خلال السنوات الخمس الماضية، خصوصاً مع الأجواء الظلامية المواتية بسبب انطفاء جذوة المطالبات بالحرية والديمقراطية وانقلاب الدولة العميقة في مصر وتونس على مكتسبات “ثورات الربيع العربي”، هذا فضلاً عن تحفّز التيارات الاستئصالية والإقصائية المستدام واستعدادها الفطري للتماهي مع أي تحرّك إرهابي طالما كان ذو جذر كهنوتي، ناهيك عن التقهقر المخجل للتيارات العلمانية واللبرالية كَرْهاً في حين وطوعاً في أحيان، الأمر الذي يستوجب على صاحب كل يَراع لا يُشترى ولا يُباع، أن يتصدّى لكتّاب المناسبات، أصحاب أقلام الرصاص التي تنبري لخدمة من يشتري ويبري.