مرايا – كتب: د. مهند العزة
البحث في قاموس الدبلوماسيّة والدلالات المجازيّة والعبارات غير المباشرة، بات مهمة مستحيلة لكلّ من أمسك بقلمه محاولاً التنفيس والتعبير بهدوء عمّا يعتريه من مشاعر إحباط ممزوجة بحالة من الصدمة وعدم التصديق بسبب تفشّي آفة الوقاحة المتنكّرة بزي الصراحة، وبشاعة الوسيلة لتحقيق غاية غير نبيلة؛ بين بعض من شاءت عبثية المشهد أن يكونوا في زمرة الصحفيين والإعلاميين؛ ممن لا يخجلون من قرّائهم، وأنّى لهم ذلك وهم من أنفسهم لا يخجلون؛ فتراهم يستخدمون شعارات وعبارات حقوقيّة وديمقراطيّة وتعدديّة وحداثيّة… بالرغم من أنّهم كانوا حتى وقت قريب وسيظلّون إلى وقت بعيد خنجراً في خاصرتها يفت في عضدها ويغتال كلّ من يؤمن بها حقّاً ويدافع عنها إيماناً وصدقا.
“أحلى من الشرف مفيش”، واحدة من أشهر “إفّيهات” العبقري الراحل توفيق الذقن في فيلم “أحبك يا حسن”، حيث كان يلعب دور بلطجي الحارة “عبده دانس” وأطلق هذا “الإفّيه” وهو يحاول لعب دور الوسيط بين رجل ثري وقع في حبّ الراقصة “سكّرة” التي يحبها ابنه أصلا، فقامت بصدّ “عبده دانس” وأعطته درساً في الأخلاق، فأطلق ضحكته المجلجلة الشهيرة وقال بنبرة تجمع بحرفيّة عالية بين الشرّ والكوميديا: “أحلى من الشرف مفيش”، في تعبير مختصر لكنّه بليغ عن عبثيّة إقحام الأخلاق والقيم في سياق منحرف وموبوء واستخدامها ذريعةً للإقدام أو الإحجام عن عمل ما، لتصبح مجرّد نكتة أو “إفيه” مثير للسخرية.
مذهل ما استخدمه أحد الصحفيين اليمينيّن من لغة تقدميّة وهو يبدي معارضته للقيود التي تسعى الحكومة لفرضها على المواقع الإلكترونية من خلال مشروع النظام المطروح للنقاش هذه الأيام، حيث انبرى يدافع عن حريّة الصحافة والإعلام مستخدماً عبارات أعتقد أنّه تمضمض بعد أن كتبها خصوصاً تلك التي تحدّث فيها عن دور الصحافة في: “التنوير… وحريّة الرأي والتعبير… وتنويع الآراء…”؛ في الوقت الذي كان قد كشف فيه عن مواهبه الاستئصاليّة وكأنّه أمير جماعة في كهوف “تورابورا”؛ من خلال الموقع الإخباري الذي يكتب فيه وينشر فيه بمنشاره كلّ صاحب رأي حرّ؛ وبشكل أكثر صراحةً لا بل وقاحةً، عبر مجموعات الواتساب الظلاميّة والاجتماعات في الأوكار الريفيّة التي تشبه تماماً المواقع العميقة “الويب العميق، The Deep Web” الذي يحتضن المحتوى الإرهابي والإجرامي وكلّ نشاط افتراضي غير مشروع، إذ كان هذا “الصحفي عبين ما تُفرَج” ممن ملأوا الفضاء الافتراضي بالصراخ منذ أسابيع ضدّ من استخدموا حقّهم في التعبير حتى تمكّنّ منهم القطيع إلى حين ، ثمّ كان في الصفوف الأولى في فرقة الراقصين على آلامهم وأشلاء أقلامهم التي قد تنكسر لكنّها لا تُكسَر.
لا يماري أحد في عدم حكمة أي إجراء من شأنه تقييد حريّة الصحافة سواءً من خلال قانون الجرائم الإلكترونية أو المطبوعات والنشر أو أي قانون أو نظام آخر يفرض قيوداً إجرائيّة أو يضيف أعباء ماليّة جديدة على الصحف والمواقع الإلكترونية والإذاعات والقنوات الفضائية… في ظرف تتراجع فيه مرتبة الأردن على سلّم حريّة الصحافة وتسعى قيادته إلى مراجعة منظومة الحياة السياسيّة فيه بغرض تعزيزها وتوسيع آفاقها، إلّا أن الذود عن ذلكم من جانب عتاة التطرّف الفكري وأباطرة الإقصاء؛ هو عين النشاز وأصل الاشمئزاز، لأنّه يخرج من غير أهله الذين غايتهم جني المال أو ركوب ترند الأبطال، ويا حبّذا الجمع بين السيّئتين.
إذا كان الحياد كذبة كبيرة في عالم الإعلام لاستحالة تجرّد وسائله عن التأثيرات السياسيّة والأيديولوجيّة والمجتمعيّة… فإنّ هذه الكذبة تغدو خرافة في مجتمع نشأت أجياله على الانحياز المعرفي بوصفه وسيلة الفهم وبناء المواقف، ويتقرّب إلى الله بشيطنة وتدمير المخالف؛ نصرةً لله والوطن والدين، فكيف والحالة هذه لمدّعي كان في طليعة جحافل الغوغاء الذين نظّموا حملات التوحّش ضد الكتاب اليساريين والعلمانيين والتنويريين؛ أن ينعق ويصيح ذارفاً دموع التماسيح؛ على “الدور التنويري” للصحافة والإعلام؟ إلا إذا كان التنوير عنده إطفاء النور بالنار.. وتقديس التقاليد ومحاربة التجديد.
في الوسط الصحفي والإعلامي من هو أهل ومؤهل للدفاع عن حريّة الصحافة بمصداقيّة وحصافة، ممن دفعوا ثمن مواقفهم الثابتة ولم يغيّروا على الرغم من أن كلّ من حولهم قد تغيّروا، فهؤلاء هم الأولى بالصدارة لأنّ الناس تعرفهم بسيماهم، فلا ألوان ولا أقنعة، ولا مؤامرات عبر الواتساب أو في مزرعة، لذلك فإنّه لا يكفي أن تكون قضيتك عادلة لتربحها، إذ ينبغي أن يكون من يدافع عنها مُقنِعاً غير مُقَنَّع، صادقاً غير متصنّع، ذو حيثيّة وحضور، متصالحاً مع نفسه صادقاً مع الجمهور.
“زمن الرويبضة” عبارة شاعت على ألسنة الناس كلّما رأوا أمراً وقد وُسِّدَ لغير أهله، دون أن يدركوا أنّهم سيتحسّرون على هذا الزمن في وقت يتوّج فيه قطّاع الطرق أبطال، ويصبحوا مُلهِمين ومصدر الحميد من الخصال، وإذا بالمتطرّف يشكو من وسطيّة المختلف، بينما يطالب العنيف بحمايته من الضعيف.
كما بدأنا بتوفيق الذقن ننتهي، إذ تميّز في دور آخر في فيلم أُنتِج عام 1981 يصلح عنوانه ليكون عنوان المرحلة وتوصيفها: “الشيطان يعظ”، فهنيئاً للوعّاظ من الشياطين المتسكّعين في أزقة ودهاليز حيّ الكلمة والرأي الحرّ، يشربون نَخب ضحايا شاركوا في اغتيالهم وهم يتغامزون ثملين متهامسين: “أحلى من الشرف مفيش”.