مرايا – كتب : د. مهند العزة
مطالعة ما درج عدد من الفقهاء على استخدامه من ألفاظ نابية وعبارات مهينة واتهامات بالتكفير والفسق والزندقة والابتداع… ضدّ بعضهم البعض بسبب خلاف مذهبي أو فقهي؛ مع قراءة مقولة (الحافظ بن عساكر) الشهيرة: “لحوم العلماء مسمومة” التي ما انفكّ المتفيقهون علماء “على كلّ لون وما يطلبه المستمعون” يتاجرون بها ويشهرونها في وجه مخالفيهم متحصّنين خلفها أمام دراويشهم لتكفيهم مؤونة الردّ على حجج منتقديهم؛ يدرك ما يتمتع به القوم من قوّة في جهازهم الهضمي والمناعي، إذ أمضوا من عمرهم سنين وهم ينهشون لحوم بعضهم البعض دون أن يتقيّأوا أو تظهر عليهم أي من أعراض التسمم، “وعيني عليهم -أو ربّما أذني- باردة”.
بلغ حدّ الخلاف بين الحنابلة والأشاعرة في وقت ما، أن صرّح مفتي الشافعيّة (أبو مظفّر بن محمد البروي) أنّه: “لو كان الأمر بيده لفرض الجزية على الحنابلة” في حكمه عليهم بأنّهم من “أهل الذمّة”، كما سبق هذا ولحقه اضطهاد ممنهج لأصحاب الرأي المخالف، إذ تعرّض للقمع والتعذيب وأحياناً القتل؛ أحمد بن حنبل نفسه والحلّاج وأبو العلاء المعرّي وابن رشد وابن المقفّع وغيرهم كثيرون. هؤلاء علماء اضطهدوا بفتاوى من علماء، ومن يدري، لو كان زمام السلطة بيدهم لفعلوا بخصومهم ما فُعِلَ بهم، حيث كان الإرهاب الفكري -كما هو اليوم – بضاعةً متداولة ومتبادلة.
تجذّر ثقافة الصوت الواحد وانعدام القدرة على احتمال وجود رأي مخالف، أفضت إلى صراعات وحملات مستصحبة من الإرهاب الفكري بين السنّة والشيعة، وفي داخل الشيعة بين الاثنا عشريّة والزيديّة والاسماعيليّة، وفي داخل السنة بين السلفيّة والصوفيّة والمرجئة والأخوان المسلمين، وداخل السلفيّة بين السلفيّة العلميّة والسلفيّة الجهاديّة والجاميّة والسروريّة… والقائمة تطول.
التثبّت من سوء أدب الخلاف السائد بين بعض أئمة المذاهب وأمراء الطوائف وشيوخها نزولاً إلى أتباعها، ليس بالأمر العسير، إذ يكفي الرجوع إلى آلاف الكتب والمصنّفات التي تحوي بين طيّاتها وصلات من الرَّدْح المقعّر نثراً وشعراً وسجعا. أما من كان لديه فضول جامح ويعشق مغامرة معايشة التجربة، فما عليه إلّا أن يصلّي في مسجد في إحدى قرى أو أحياء مصر أو المغرب أو أفغانستان أو باكستان والأردن خلال فترات ماضية في بعض مناطقه؛ يؤمّه أتباع تيّارات متنوّعة، ليرى كيف أنّ السلفيّين لا يصلّون خلف الأخوان أو المتصوفة، والمتصوّفة بدورهم –على تسامحهم- قد لا يصلّون خلف السلفيين الذين يكفّرون الصوفيّة أو يتّهمونهم بانحراف العقيدة في أحسن الأحوال.
قبل أن يفغر أحدهم فاه بالأكلاشيهات المعلّبة لتبرئة غير البريء من أساطين الإقصاء ويتحفنا بعبارات فارغة غير منتجة في النقاش من مثل: “هذا له سياقه وظرفه… وهذا الاستثناء الذي لا يقاس عليه… وهناك أمثلة كثيرة على أدب الخلاف ورقيّ العلاقة بين العلماء والفقهاء… ولماذا لا تنظرون إلى ما فعله ويفعله الغرب ببعضهم البعض…”، هناك حقائق ينبغي إدراكها أو على الأقل عدم تجاهلها في حال استعصي الإدراك على البعض من نُسّاك التقليد والانقياد. أوّلها أنّ ترديد الشعارات المحفوظة والمعلّبة لا ينهض حجّةً ولا دليلاً في معرض النقاش والتأصيل والتحليل. أما الحقيقة الثانية فهي، أنّ الأصل في العلماء –كما يتردّد ويردد مريديهم- أن يكونوا القدوة والمثل المُحتَذى في أدب الخلاف وقبول الاختلاف، لذلك تبدو الحجّة العدديّة وتبرير ما يصدر عنهم من بذاءات بأنّه يمثّل الاستثناء على القاعدة ؛ أمر معيب. وأخيراً وليس آخراً، فإنّ ارتكاب الفعل المشين من مئات الملايين لا يقلبه حميداً ولا يبرر للآخرين ارتكابه.
غالباً ما يتّخذ سوء الأدب في الخلاف مظاهر عنيفة تصل إلى حدّ تشويه السمعة واغتيال الشخصيّة، وقد تتسع دائرته لتتغلغل في نسيج أتباع التيّار الواحد، كما حدث منذ سنوات وما يزال بين أتباع التيّار السلفي العلمي في الأردن الذين خاضوا في ما بينهم حرباً ضروس عقب وفاة مؤسس التيّار في بلاد الشام الشيخ الراحل ناصر الدين الألباني، فزيارة هذا الموقع: (http://www.addyaiya.com/uin/arb/Viewdataitems.aspx?ProductId=282) تظهر كيف يسخّر هؤلاء مهاراتهم اللغويّة في “الرَّدْح الحيّاني” للنيل من أحد كبار مشايخهم بسبب خلاف ظاهره العلم وباطنه الزعامة والإمامة.
أصل القبح يتجلّى حينما يكون المخالف مغايراً في الملّة والعقيدة، إذ يصبح حينها ساحةً مستباحةً للإرهاب والامتهان، ودون الخوض في أوحال الأقوال والأفعال التي تكرّس كلّ رذيلة متصوّرة ضدّ أصحاب الديانات والمعتقدات الأخرى، يكفي الاطلاع على نماذج من الفتاوى المعاصرة (https://www.islamweb.net/ar/fatwa/50065/ ) التي تستقي من مستنقع الفوقيّة والشيفونيّة ذاته، إذ يجيب “أصحاب اللحوم المسمومة والروائح المشمومة” في هذه الفتاوى على أسئلة عصبة من مريديهم يعانون من انحراف سلوكي وأخلاقي يجعلهم متعطّشين للتنمّر على الآخر وسبّ دينه، حيث يجيز لهم مشايخهم ذلك في ما أوردوه من أنّ: “سبّ أديان المخالفين جائز بما فيها المسيحيّة واليهوديّة التي (تم تحريفها)، شريطة أن لا يسبب ذلك سبّ الطرف المقابل لديننا، فهنا لا يجوز سبّ دينه سدّاً للذرائع”.
العار الذي تجسّده هذه الفتاوى يتجلّى حينما تقرأ فتاوى موازية تقطع بتحريم سبّ دين الجمادات! وربّما كان هذا منسجماً مع الطبيعة الذهنية لهؤلاء الذين يدفعهم بُغْض المخالف إلى احترام الجمادات واعتبارها أعلى قيمةً وأسمى من المخالف وما يدين به. أما دلالة الأسئلة التي صدرت ونشرت بسببها هذه الفتاوى، فهي مؤشّر على تجذّر ثقافة كراهية الآخر والبحث عن رُخَص تبيح إهانته واضطهاده وتحقير معتقده لا لذنب جناه أو جريمة اقترفها باسم الدين في حقّ أي فرد أو مجموعة أخرى، وإنّما لأنّه فقط اختار لنفسه عقيدةً مغايرة، ثمّ تكتمل ظلمة اللوحة وبشاعتها بدلالة قيد “سدّ الذرائع” الذي تورده هذه الفتاوى، إذّ هي تقطع بأنّ الأصل هو جواز سبّ دين المخالف، إلّا إذا كان ذلك سيدفعه لسبّ ديننا، فإذّ ذاك يجب الكفّ عن ذلك، ليس احتراماً لعقيدته وحقّه في الاعتقاد لا سمح الله، وإنّما حمايةً لديننا من الفعل الذي نجيزه لأنفسنا في مواجهته.
تجميع أجزاء اللوحة يظهر أصلها وقتامتها، فما يشهده واقعنا الاجتماعي والثقافي من حالة إدمان واستعذاب لإقصاء ثمّ استئصال كلّ من يختلف عنّا ويخالفنا واغتياله عبر وسائل التواصل الاجتماعي؛ مستمدّ من ثقافة يرى فحولها أنهم قديسون ومن يخالفهم مدلّسون، لذلك فالأمل سيظلّ منعقد على جيل جديد يقدّس التنوّع والتجديد وينبُذ التفرّد والتقليد.