مرايا -كتب :د. مهند العزة
“الفن مين يوصفه إلا االلى عاش في حماه * والفن مين يعرفه إلا اللى هام في سماه”.
تلخص هذه الأبيات من قصيدة “أنشودة الفن” للشاعر صالح جودت التي لحّنها وغنّاها محمد عبد الوهاب في منتصف العقد الرابع من القرن الماضي؛ فلسفة تذوّق الفن والمؤهّلات الوجدانيّة للذوّاقة، إذّ لا بد أن يكونوا من العاشقين لفحواه المصدّقين برسالته المؤمنين بقدرته على إحداث تغيير في السلوك الفردي والجمعي للأمم.
سمات متذوّقي الفنون تفترض انعتاقهم من رِقّ التقاليد والتقليد والتخلّص من قيود الانغلاق وخضوع العبيد، فيغوصوا في بحارها متجرّدين من لباس المعلوم بالضرورة وشبح ما تبقّى من صورة باهتة مأثورة رسمتها ريشة كارهي الحياة من مبتدعي فقه الدماء.
المعارك االمستعرة في كتب الفقه متقدّمها ومتأخّرها حول حلّ الفن من حرامه؛ تمخّضت عن “إنجاز إنساني عظيم”؛ تمثّل في إجماع آراء الفقهاء -ظلّ الله في أرضه وكلاء السماء- على “جواز الضرب بالدُف مع تحريم التصفيق بالكفّ”، مع رجحان الرأي القائل بتحريم سائر الفنون من تصوير ونحت وموسيقى وغناء من حيث المبدأ، لكن مهلا، فلكيّ لا نظلم القوم، فقد أجازوا رسم وتصوير غير أولات الأرواح من جمادات ونباتات، وإباحوا الإنشاد للرجال فقط دون معازف.
ارتكاب عصابتيّ طالبان في أفغنستان وداعش في سوريا جريمة تحطيم آثار عظيمة القيمة تشكّل جزءً من التراث الإنساني المشترك؛ ما هي إلّا ممارسة تتماهى مع المخزون الفكري الأصولي المتوارث الذي شكّل وجدان حركات الفكر المتطرّف، وهي من بعد –أي تلك الممارسة- ذات جذر ضارب في عمق شجرة “الزقّوم” التي تطرح ثمار بغض الفن وتشويه الجمال.
العبارات الآتية من مقدّمة ابن خلدون تكشف بجلاء عن جين معاداة الفنون والحضارة المكتسب، إذّ يقول: “وانظر بالمشاهدة إيوان كسرى وما اقتدر فيه الفرس حتى أنه عزم الرشيد على هدمه وتخريبه فتكاءد عنه وشرع فيه ثم أدركه العجز وقصة استشارته ليحيى بن خالد في شأنه معروفة فانظر كيف تقتدر دولة على بناء لا تستطيع أخرى على هدمه مع بون ما بين الهدم والبناء في السهولة”. ثمّ يقول في مكان آخر من المقدّمة نفسها حول قصّة إحراق مكتبة فارس عقب معركة القادسية: “إلا أن المسلمين لما افتتحوا بلاد فارس، وأصابوا من كتبهم وصحائف علومهم مما لا يأخذه الحصر ولما فتحت أرض فارس ووجدوا فيها كتبا كثيرة كتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب ليستأذنه في شأنها وتنقيلها للمسلمين. فكتب إليه عمر أن اطرحوها في الماء. فإن يكن ما فيها هدى فقد هدانا الله بأهدى منه وإن يكن ضلالا فقد كفانا الله. فطرحوها في الماء أو في النار وذهبت علوم الفرس فيها عن أن تصل إلينا”.
وامتثالاً لأحكام مذهب “الهدم والردم”، هاجم معتنقوه الأديب العالمي الراحل نجيب محفوظ بشراسة حينما بدأ نشر روايته “أولاد حارتنا” على شكل سلسلة في جريدة الأهرام مطلع خمسينيات القرن الماضي، وأُجبِر على التوقّف عن النشر، ثم منعت منعاً باتّاً في مصر بتوجيه من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر سنة 1959 حينما ظهرت في شكل رواية متكاملة، فنشرها في بيروت، حيث صدرت عن دار الآداب عام 1962، لتظلّ محظورة في موطنها قرابة نصف قرن من الزمان، إلى أن صدرت أول طبعة مصريّة منها عن دار الشروق نهاية سنة 2006 بعد 4 شهور من وفاة الأديب الكبير.
رأى علماء مذهب “الهدم والردم” خلاف ما رأته جمهرة إدباء العالم ونقّاده وقرّائه، حيث حكموا بأنّ الرواية هي ضرب من “الكفر” لأنّها –من وجهة نظرهم- “تحاكي قصّة الخلق بطريقة لا تليق”، ليبدأ مسلسل التشكيك في إيمان الرجل ويمتدّ لعقود، إلى أن جاءت سنة 1994، حيث كان نجيب محفوظ قد بلغ الثالثة والثمانين من عمره، ليلبّي شقيّان من مرتادي حلقات “عظات الشْبْح وفقه الذبح” نداء ناموس عالم الظلمات ويؤدّيا في الرجل السُنّة المعتادة بسفك الدم عادةً وعبادة، فحوّلا الحكم بالطعن في عقيدته إلى حكم واجب النفاذ بطعنه، حيث اعترضا طريقه ووالياه بطعنات عدّة في رقبته، ظلّ يجد أثرها حتى وفاته، وبوازع من وجدانه الراقي وضميره الحيّ الذي شكّله حسّه الأدبي والفنّي؛ قد صرّح بعد أن استردّ شيءً من عافيته؛ أنّه سامح قاتليه وتمنّى أن لو لم يحُكم عليهما بالإعدام، مع ملاحظة أنهما أقرا بعدم قراءة ولو سطر واحد من “أولاد حارتنا” التي كانت ركيزة فتوى السفّاح الالأكبر الذي استخار وهلّل وكبّر ثمّ أحلّ لهما دم نجيب محفوظ.
موقف آخر يمثّل القاعدة الأصوليّة والفكرة المتأصّلة بين المتطرّفين من رجال الدين اتجاه الفن والمبدعين، عبّر عنه الشيخ وجدي غنيم،الذي يبيّن في هذا المقطع https://www.youtube.com/watch?v=e0n-X4qZPto من إحدى مسرحياته الهزليّة؛ “الحكم الشرعي” –كما يراه- حول حفل “موكب المومياوات الملكيّة” الذي أقيم في شهر نيسان/إبريل الماضي حيث تم نقل 22 مومياء فرعونيّة من المتحف المصري بميدان التحرير إلى المتحف القومي للحضارة المصريّة بمدينة الفسطاط في القاهرة، إذّ أكّد الشيخ أنّ هذا العمل حرام شرعاً لأنّه: “ينطوي على تكريم لجثث الكفّار وأنّ مومياوات النساء حاسرة الرأس وشعرها ظاهر للعيان”!
الثقافة ومساحة الحريّة ونمط التفكير… اعوامل تلعب دوراً رئيساً في فهم الفن ودلالاته وتوجيه أثره على الحالة الذهنيّة للشخص، فربَّ رجلان متقاربان في السنّ متماثلان في قوّة البنيان مختلفان في الثقافة، يقفان في متحف يحملقان في لوحة ولادة فينوس أو الماجا العارية أو كيلوباترا أو أياً من لوحات عصر النهضة الذي اشتهر رسّاموه باستلهام إبداعاتهم من الجسد للتعبير عن قيم وفضائل إنسانيّة مختلفة؛ فإذا أحدهما تسيل دموعه متأثراً برمزيّة الفطرة والنقاء والجمال التي يمثّلها الجسد المكشوف… بينما الآخر يسيل لعابه استثارةً وشبقا، كيف لا والمرأة بكامل لباسها عورة، فما بالك وهي متجرّدة من بعضه.
من ملك عقله وتملّك جسده واحترم في ذلك ملكيّة غيره؛ كان الفن بالنسبة له مصدر إلهام وسكينة وسلام، أمّا من باع وعيه لأئمّة الظلام وابتاع حواسهم ليرى من خلالها العالم؛ فسوف تتراءى له الفنون خطايا ومجون، وسيكون عموم الإبداع عنده ابتداع والمبدعين أخوان للشياطين.