مرايا -كتب – د. مهند العزة:
يصر أصحاب بيعة العقول ممن أقسموا عهد الولاء لكل نداء يقدس البغضاء والإقصاء، وأعلنوا البراء من كل قيمة تحترم غريزة التفكير وتعترف بحرية الرأي والتعبير؛ على إحياء ذكرى المبايعة والتنازل عن حق الملكية الفكرية لضمائرهم ووجدانهم لمن اشتراها بثمن بخس؛ كلمات معدودات تتردد عن العود المحمود للمجد المفقود، والمؤامرات التي تحاك والأعداء الذين ما انفكوا ينصبون لأبناء الأمة وبناتها الأشراك والشباك.
مهرجانات إحياء ذكرى هذه البيعة المشؤومة يأتي مواكباً لمناسبات بعضها ثابت وأخرى طارئة نتيجة عمل إبداعي أو مقالة أو تصريح أو تلميح.. المهم أن يكون محور الحدث تعبير عن رأي مخالف أو حتى مجرد ممارسة شعيرة دينية أو الاحتفال بمناسبة ثقافية أو حقوقية.
اليوم العالمي للمرأة وحملة 16 يوم لمناهضة العنف على أساس النوع الاجتماعي على سبيل المثال، تمثلان مناسبتان ثابتتان لحفلة امتهان المرأة وتقديس ما تعيشه من هوان، تحت شعارات: “نحن من كرّم المرأة وحافظ عليها وحفظها وحماها.. نحن من توجناها ملكةً في بيتها عفيفة، جوهرةً مصونة ولؤلةً مكنونة.. تنشئ الأجيال وأخت رجال..”. وفي هذا السياق لا أنسى إذ نسيت مداخلة أحد كبار رجال الدين في حلقة نقاشية منذ حوالي 7 سنوات حول حقوق المرأة، حيث افتتح الجلسة وأغلق آفاقها حينما قال: “نحن خير من عظّم المرأة وعرف قيمتها ودورها، فلولا المرأة لم أكن بينكم اليوم، فهي من غسلت ثيابي وكوت ملابسي ولمّعت حذائي وجعلتني أخرج إليكم في هذا الهندام”، ويكفيك معاينة طيور الظلام عقب كل جريمة قتل أو تعنيف ضد فتاة أو سيدة وهي ترمي بمناقيرها المعقوفة الضحية بحجارة من سجيل وتستقبل وتودع القاتل والمُعنِّف بالحمد والتبجيل.
أما اليوم العالمي لحقوق الإنسان، فهو فرصة لإقامة مهرجان التخوين والتشكيك في النشطاء ومنظمات المجتمع المدني واليساري والعلماني وحتى ”الوسطي”، فاتفاقيات حقوق الإنسان التي أجمعت عليها الأمم ما هي – من وجهة نظر أصحاب بيعة العقول- إلا “نغمة نشاز في لحن الخلود ومسمار في نعش تحقيق الأمل الموعود بورود الورد المورود”، ثم عليك بعد ذلك أن تصدق بهلوانات المؤتمرات من المرائين المتلونين وهم يعتلون المنصة ممسكين بالحديدة واضعينها في أفواههم حتى البلعوم، صائحين: “نحن نحترم مواثيق حقوق الإنسان لأننا أول من عرف مضامينها.. كل ما في هذه المواثيق أصله عندنا وفصله في أرثنا”.
أما أعياد الميلاد المجيد نهاية كل عام، فينتظرها حفاة العقول عراة الأخلاق بفارغ الصبر ليقيموا كرنفال تحريم السلام والمعايدة وزندقة من يقترفهما “والعياذ بالله”، فتجد الغبار الأصفر وقد تصاعد في الهواء من على صفحات مصنفات فنون ازدراء المخالف وتحقيره، وتشبعت مواقع التواصل الاجتماعي ومجموعات الواتساب بالدعوات والرسائل الحاضة على البغض، محذرةً كل من تصل إليه من عاقبة تهنئة جاره أو صديقه أو زميله أو ربما قريبه المسيحي بعيد الميلاد، “لأن في ذلك اعتراف ضمني بصحة عقيدته واعتراف بهويته الدينية، على خلاف ما يجب أن يكون عليه من هوان وصغار باعتباره ذمي تجب أصلاً عليه الجزية..”، دون أن تفلح الدعوات الخجولة التي يطلقها بعض رجال الدين “المعتدلين” بضرورة التسامح والتعايش.. في كبح جماح تسونامي البغضاء والاستعداء الذي يجتاح المجتمع مع نهاية كل عام مرفوعاً ومدفوعاً بنقول وفتاوى سطّرها المتقدمون وصححها المتأخرون وسكت عنها المعاصرون.
أما الأحداث الطارئة التي يتجمهر بائعو عقولهم حولها، فليس بالضرورة أن تكون حقيقية أو دقيقة، فيكفي أن يلبسها مخترعها ثوب الدين أو العنصرية أو شبهة المساس بالقيم الأخلاقية والمجتمعية أو شبهة فساد..لتتطاير أسراب الذباب فتحط عليها منغمسةً فيها ناشرةً ما علق بأجنحتها من نفايات فكرية استئصالية.
منذ أيام، كتب أحد المهرجين ممن اشترى عقول متابعيه بوصلات وتعويذات “ما يطلبه الجمهور” على حسابه على تويتر يقول: “هل صحيح أن الحكومة الأردنية “تحصل” على مبلغ 12 ألف دولار عن كل إصابة مسجلة بفيروس كورونا من منظمة الصحة العالمية؟ مجرد سؤال برسم المسؤولين!”.
هذا السؤال يشير إلى أحد احتمالين: أولهما أن من يطرحه يساوره شك بصحة المعلومة ويحتاج لإجابة، الأمر الذي يدل على سذاجة وضحالة فكرية؛ خطورتها ليست في وجودها لديه، وإنما في انقياد عشرات الألوف خلفه وهو بهذه الحالة الذهنية المزرية، حيث أنه لا يستبعد أن يكون لدى منظمة الصحة العالمية آلة طبع نقود لا تتوقف أو أنها ربما وصلت لتركيبة كيميائية تمكن الدولارات من التزاوج والإنجاب لتدفع للحكومة الأردنية وحدها 12 ألف دولار عن كل شخص تثبت إصابته بالفيروس، ثم هو من بعد لا يأبه بالبحث في سبب مبادرة منظمة الصحة العالمية المأزومة مالياً لدفع هكذا مبلغ للأردن تحديدا، فإذا كان يعتقد أنها تقوم بذلك مع دول أخرى، فلربما ظن صاحبنا أن رئيس المنظمة المتعثرة وفريقه يتسللون كل ليلة إلى سفح جبال الألب ويقفون خلف شجرة وينادون في الثلث الأخير من الليل بصوت جماعي خافت: “افتح يا سمسم” لتنفتح مغارة علي بابا السويسري فيغرفون منها ما شاء الله لهم ويضعونه على ظهور الخيول عائدين به إلى مقر المنظمة في جنيف ليبدأوا العد والتحويل بحلول عصر اليوم التالي بعد صدور بيان وزارة الصحة الذي يعلن أعداد الإصابات، هذا بخلاف الوفيات التي لم يقل لنا هذا العرّاف الغامض تسعيرتها.
أما الاحتمال الثاني وهو الأرجح، فهو أن يكون هذا الشخص مضلل يرمي لمريديه عظمةً ليلهثوا وراءها ويملؤوا الفضاء نباحاً أو عواء أو ثغاء.. بحسب فصيلة كل منهم، الأمر الذي يبرهن على القيمة التي اشترى بها هذا الراعي رؤوس قطيعه، فقد ظنّ بهم الغباء والانقياد، فأصاب بظنه، فما هي إلا لحظات حتى توالت الإعجابات وإعادة التغريدات والتعليقات على هرائه تترى.
علّمنا أصحاب الحل والعقد أن الحق أبلج والباطل لجلج، فلماذا والحالة هذه يستشعرون الخوف في رحاب العقل ويجدون الأمان في غياهب النقل؟ أليس ما نراه من صفقات لبيع العقول والضمائر.. سببها تقديس ما قيل ويقال على حساب قيمة التفكّر والسؤال؟