مرايا – كتب : د. مهند العزة
في أكثر من مناسبة قمنا ببيان تضليل وكذب حزمة من المعلومات والبيانات التي تضمنتها مقالات نشرتها أو أعادت نشرها شبكة الجزيرة على موقعها الرسمي، وبصفة خاصة المقالات التي تتسم بالتطرف الديني التي لم يخجل كاتبوها من تزوير الحقائق وتأليف التصريحات فيها ونسبتها إما لهيئة أممية أو مفكر أو كاتب غربي، معتمدين على توق القطيع لسماع نعيق الإرهاب الفكري والغلو الديني دون تحري أو تدقيق، تماماً كما حدث في مقالات تناولت حقوق المرأة واتفاقية سيداو وتعريف الأسرة.. التي تزاحم فيها الكذب المفترى مع التدليس والبيانات المُضَلِلة.. لتتلقفها حركات الإسلام السياسي مثل حزب جبهة العمل الإسلامي في الأردن الذي تبناها على غير هدى ووضعها في بيان رسمي قام بتوجيهه لرئيس الوزراء احتجاجاً على كتاب صادر عن وزير التربية والتعليم السنة الماضية حول التدريب على الجندر وحقوق الإنسان، هذا فضلاً عن مقالات محرفة أعادت القناة ومذيعوها نشرها لترويج بضاعة «الإعجاز العلمي الديني» بعد كسادها.
الجزيرة التي باتت تغلب البروبغندا والإثارة على الموضوعية والمصداقية، لم تجد حرجاً في أن يخرج مقدم برنامج «فوق السلطة» لديها في حلقته الماضية ليبث معلومات كاذبة إما عن جهل أو وعي بقصد التجهيل، «فزفّ للمشاهدين بشرى» فحواها: “أن اليابانيين توصلوا أخيراً لحكمة عدة الطلاق وسلّموا بها، حيث قامت السلطات في اليابان بتعديل تشريعاتها لتجعل المدة الفاصلة بين طلاق المرأة وزواجها التالي 300 يوما وذلك لكي لا تختلط الأنساب”، ثم عقد المذيع المدلّس -كما هوة ديدن الباحثين عن قشة الغريق لتلميع الموروث والتزويق- مقارنةً مع فترة العدة الواجبة شرعاً على المطلّقة وهي 3 أشهر، لينتهي حيث يريد أن ينتهي كل منفصل عن واقعه، إلى «أننا السابقون غير المسبوقين والعارفون غير المعروفين والمتنبؤون غير المُصدَّقين» حتى لو كان واقعنا يعكس حالة التخلف والجمود التي جعلتنا في ما وراء الوراء بقدر القرون المزعوم أننا سبقنا الأمم بها.
تلك هي رواية الجزيرة البائسة المفتراة، أما الرواية الصحيحة التي لا يعرفها مقدم البرنامج أو أنه يعرفها لكنه استخدم «رُخَص: الحرب خدعة.. والضرورات تبيح المحظورات.. وما دمنا في حرب فكرية وثقافية فلا بأس من استخدام هذه الرُخَص والكذب والمداراة لإظهار الدين ولو كره المشركون»؛ فهي منشورة على مواقع الصحف مثل الإنديبندنت https://www.independent.co.uk/asia/japan/divorce-japan-father-child-law-b2007697.html ووكالات الأنباء العالمية التي تنقل الخبر دون زور ولا بهتان، فتبين أن: “لجنة من الخبراء في اليابان توصي بضرورة تعديل القانون المدني الحالي الذي يعود للقرن التاسع عشر، بحيث يلغى الحكم الذي يوجب تسجيل الطفل باسم الرجل الذي طلق زوجته طالما كانت واقعة الولادة خلال 300 يوم من تاريخ الطلاق، لأن هذا الحكم بات خارج سياق الزمن ومتخلف عن التطور العلمي في مجال إثبات النسب، هذا فضلاً عن كون الحكم الموصى بإلغائه يمثل قيداً مجحفاً في حق النساء ويتعارض مع حقوقهن والالتزامات الدولية التي صادقت عليها اليابان بموجب اتفاقية سيداو وغيرها. كما يجب إعطاء الأم والطفل حق عدم الانتساب للأب الذي يثبت ممارسته للعنف وسوء المعاملة”.
هذا هو الخبر كما نشرته وكالات الأنباء والصحف العالمية، منبتّ الصلة بمسألة العدة واختلاط الأنساب ومتصل بسياق داخلي محض في اليابان، ليأخذه مقدم برنامج «فوق السلطة» فيحرفه وينحرف به عن جادة المصداقية إلى منعرج التوظيفات الشعبوية علّه يعالج ما أفسده انحياز ونفاق وتقلب مواقف الجزيرة، وعلّها تستقطب مزيداً من آحاد القطيع الذين أفرغوا رؤوسهم وأسلموها لسماسرة الإرهاب وغلاة التطرف. فجزيرة الأمس الساخرة من النظام في السعودية والمتتبعة لآثار قادته في جريمة مقتل جمال خاشقوجي والكاشفة عن «الاستبداد والفساد والتطبيع مع إسرائيل..»، هي ذاتها التي باتت تضع لقب «سمو» قبل ذكر اسم ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وهي التي تتغنى بالعلاقات السعودية القطرية بل هي التي انقطع سيل نكات مقدم برنامج «فوق السلطة» فيها على النظام السعودي فور تحول البوصلة واهتزاز هاتف السامسونغ أو الإيفون أو انسياب همسات «الإيربيس».
كثيرون لا يدركون سوء تبعات ليّ ذراع الحقائق وتزويرها سواءً من خلال وهم «الإعجاز العلمي الديني» أو تديين القيم الشاذة، ثم العمد إلى تشويه قيم العدالة والمساواة الحقة التي سبقتنا إليها أمم الأرض فارتقت وتقدمت، بينما نحن نصارع لإثبات أن قيمهم ما هي إلا «مؤامرة.. وصناعة شركية.. وبوابة خلفية للاعتراف بحقوق المثليين.. ودعوة للفسق والفجور…»، وذلك لا لشيء إلا لأنها تتناقض مع قواعد أصولية متطرفة غلب تقديسها ورغبة تكريسها على الحاجة العقلانية والأخلاقية لتقييمها وتفنيدها واستبعاد الضار ومنتهي الصلاحية منها، ليكون المخرج من هذا الصراع القيمي الفجّ؛ تشويه الجميل وتجميل القبيح، ليمضي ركب التحضر والتطور ونتخلف ورائه ولو رغمت أنف أهداف التنمية المستدامة التي شعارها «لكي لا يتخلف أحد عن الركب».
لم يكتفِ مقدم برنامج «فوق السلطة» بالكذب على اليابانيين وهم بين ظهرانينا، فزاد على جرعة التضليل والتطرف إنزال حكمه ورؤيته ورأيه الاستئصالي على المفكر سيد القمني عليه رحمة الله، حيث سخر من قناة العربية لأنها نعته ونعتته ب”المفكر”، بينما أثنى وثنّى على ما قالته قناة «مكملين» الأخوانية عن الرجل بأنه “خارج عن الملة وأمضى حياته لمهاجمة الإسلام”، مع تذكيرنا أن قناة الجزيرة استضافت القمني رحمه الله -حينما كانت محترمة- في برنامج «الاتجاه المعاكس» ليناظر عتاة الإرهاب الفكري والتطرف في الاستوديو ولندن عبر الأقمار الصناعية وكانت له الغلبة.
الانحدار المهني والأخلاقي الذي وصلت إليه الجزيرة إلى حد عدم قدرة مذيعيها على كبح جماح سطوة إيديولوجياتهم وآرائهم الشخصية المتطرفة على الهواء، فمثلاً تجد مذيعها فيصل القاسم يتباهى ببلطجته على الهواء مروجاً عبر حساباته على وسائل التواصل الاجتماعي لمقاطع فيديو من برنامجه «الاتجاه المعاكس» بعناوين مثل: «شاهد كيف طرد فيصل القاسم ضيفه الكردي.. شاهد فيصل القاسم يطرد ضيفه لأنه تطاول على أردوغان..»، وكذلك استمراء مقدم برنامج «فوق السلطة» خداع جمهوره والكذب عليهم والحكم بكفر فلان وإيمان علان.. كلها ممارسات غير أخلاقية تنزل بهذه القناة إلى دركات إعلام السلطة في الدول العربية الذي ما انفكت الجزيرة تسخر منه وتدينه.
لعل أصدق ما في برنامج «فوق السلطة» عنوانه، لأن من يهين الحق والحقيقة ويستمرء الكذب والتضليل للإثارة والتهويل، لا يعدو المحتوى والجمهور في عرفه أن يكون سَلَطَة، وليس للحق ولا للأخلاق عليه سلطة.