مرايا – د. مهند العزة
لم يكن «جورج برنارد شو» ليقول عبارته: “إن أول شرط للتقدم يتمثل في انتزاع الرقابة الذاتية”، لو كان ينعم بإدارة شؤون دولة قمعية يعد الإعلام المرتجف أحد أهم أركان تثبيت السلطة فيها وإفساد وعي شعبها وشيطنة أي تيار أو حزب أو حراك يرنو إلى إحداث تغيير أياً كانت طبيعته حتى لو كان تغيير ملابسه الداخلية.
الدول القمعية التي تنعم سلطاتها بحرية مصادرة حرية الرأي والتعبير، لم توفي بعد الإعلام المرتجف حقه، وهو الذي يسدي إليها مع شروق كل شمس ومغيبها خدمات ذليلة لا تقدر بمال، إذ لولا هذا الارتجاف الإعلامي لأنفقت دول الصوت واللون والملمس والرائحة والمذاق الواحد الكثير من الوقت والمال لاستئصال شأفة كل رأي ينطوي على «شبهة» مخالفة النسق والسياق الأحادي المتسق في إدارة ملفات السياسة والتنمية والاقتصاد «ولا مآخذة الحقوق والحريات ومكافحة الفساد».
إنني بصفتي منافح عن حقوق كل إنسان حتى لو كان بمنزلة الحيوان، أطالب بعلاوة «بدل علاج طبيعي واشتراك جم» لتقوية عضلات «الترايسيبس والبايسيبس» لجنرالات الإعلام وضباط صفّه والعساكر المجندين فيه، لحمايتها من التمزق نتيجة ممارسة إزاحة الخطوط الحمراء المرسومة لهم عن أماكنها للمباعدة بينها أكثر وأكثر، ولما لا، والتباعد بات سمة الحياة، هذا فضلاً عن الحركة اللا نهائية لأيديهم وهي تمسح وتشطب وتعدل وتبدل بفعل قوى الرقابة الذاتية العكسية؛ عبارات وكلمات وعناوين المقالات والتقارير وتحقيقات الاستقصائية.. خشية انسلال كلمة أو عبارة حمراء تقطع المناطق المحذورة الأشد حمرة متجاوزةً خطاً أحمر من كل ما سبق.
علاوة أخرى يستحقها جماعة الإعلام المرتجف، وهي «بدل علاج نفسي»، حيث سرعان ما يتحول التزامهم بالخطوط الحمراء وخوفهم من الاقتراب منها إلى «فوبيا الحَمار» التي تجعلهم يرون أنفسهم وكل ما ومن حولهم أحمر منهم، لتتحول أقلامهم إلى طامس أحمر يصبغ كل كلمة أو عبارة يمكن أن تحتمل أكثر من معنى؛ بحمرة حرمة المجانبة والمخالفة، لذلك فلا أقل من تغطية جلستين أسبوعياً لهؤلاء المحمرّين عند معالج نفسي يومي السبت الذي يسبق يوم المقالات الموجهة، والخميس اليوم الذي يسبق الأحداث التي يراد لها أن تكون مفاجئة وأي تغطيات مفصّلة لاحتجاجات محتملة أثناء عطلة نهاية الأسبوع.
التأمين الصحي لكتائب الإعلام المرتجف يجب أيضاً أن يشمل المراهم والكريمات الخاصة باحمرار راحتي اليدين وتقرحاتها بسبب «التطبيل» المستمر الذي يعلو أو يصل إلى درجة الصخب حسب الأحوال والموال، لكنه أبداً لا يخفت ولا يتوقف ولا يفنى ولا يستحدث من العدم.. ولأن ليس كل مرتجف في الإعلام بالضرورة «طبّال»، إذ قد يكون مجرد مجنّد للاستماع إجباري «للطبلة والتهليل لصولاتها»، لذلك فأن لأذنيه وحنجرته علينا حق، ومن ثم لا بد أن يغطي التأمين له زيارة واحدة على الأقل شهرياً لطبيب أنف وأذن وحنجرة لمتابعة وضعية أذنيه وأحباله الصوتية، مع ضرورة تزويده مجاناً بمعينات سمعية إذا أصيب بضعف السمع نتيجة غلظة «الدُمّ أو حِدّة التَكّ».
علاوة «بدل الانتقال إلى جوقة السلطة من جبهة المعارضة والنضال» وما يستتبع ذلك من «عمليات تجميل لتغيير الجلد وخفض نبرة الصوت وإحلال المفردات وإبدالها..»، تبدو الأعلى بين علاوات كوادر هيئة «إعلاميين معارضيين عبين ما تفرج»، فهذه العلاوات عادةً ما تكون من علاوات «الفئة الخاصة الخالصة» التي لا ينالها إلا كل ذو حظٍّ عظيم، سواءً كان «متسلق لقمم المناصب أو أكروباتي متقلّب ليّن العضلات؛ فشر أبرع راقصة مستشرقة جمعت بين مرونة الغرب وميوعة الشرق».
الخيط الفاصل بين الخوف والجبن دقيق إلى حد لا يقوى المرتجفون على استبانته، ففي حين يظل الخوف من الأخطار؛ غريزةً متأصلةً وواحداً من أسباب البقاء، يندرج الجبن تحت مظلة الخنوع الراجع إلى الخوف الذي مردّه الفشل في تحقيق الذات وانعدام الثقة فيها، وفي حالة الإعلاميين المرتجفين، تبدو المسألة أبعد من مجرد خوف طبيعي من التنكيل أو التضييق بسبب قول أو نشر رأي يُخالِف من وما؛ لا يجوز أن يُخالَف، إذ هم يجبنون خوفاً من «اليتم السلطوي والاجتماعي» إذا ما غضبت عليهم السلطة وتخلت عنهم وتركتهم فريسةً لضحاياهم الذين طالما نالوا منهم تشويهاً وتشبيحا.
ثمة ميزة وحيدة لإعلام المرتجفين، تتجلى في رجحان الباطل فيه على الحق، فيُعرَف الأخير بمرجوحيته عندهم، ليغدو رفضهم نشر رأي مخالف وجريء؛ شهادةً بأنه الحق وأن صاحبه أفضل مقالاً وأرفع مقاما، لذلك فإن الأنظمة القمعية من حيث لا تدري، تساعد معارضيها المقموعين على الظهور والتمكين بفعل إعلام المرتجفين.
ملهاة المرتجفين من الإعلاميين تكمن في بؤس نمط تفكيرهم وتجاوز الزمن أساليبهم وانكشاف أوراقهم.. ومع ذلك إصرارهم على الاستمرار حتى وإن باتوا مادةً يوميةً للسخرية في مواقع التواصل الاجتماعي والمنصات الإعلامية المتوازنة، في حين تتجلى مأساتهم في نهايتهم التي عادةً ما تكون إما بحرقهم من قبل مزودهم بالوقود بعد أن حققوا له الهدف المقصود، أو باحتراقهم الذاتي لانعدام التجديد وكثرة التكرار، بحيث يصبح منتهى إبداعهم تبديلهم بين الكلمات في ذات الجُمَل، أو بإنجاز الرخيص من العمل، أو بانقضاء الأجل.. أيها أقرب.