مرايا – كتب : عمر كلاب
قبل سنوات ليست بالبعيدة كانت الحارة منظومة اجتماعية كاملة, لها حدودها الواضحة وتركيبتها الاجتماعية الخاصة, كانت اشبه بولاية على النظام الاميركي, مختارها وقبضاياتها ومقهاها, كانت الاشتباكات تقوم بين حارة وحارة, بصرف النظر عن التركيبة السكانية, كان لكل حارة عمّ كبير, يهابه شباب الحارة بوقار, ورغم انه كان عقيدا للمنطقة كلها الا ان العم ابو ادم العبداللات كان يحظى بهذه المكانة في حارتنا, كان للحارة شرفها الخاص الذي يمنع اي غريب من التجرؤ على بناتها ولها مهابتها الخاصة فلا يتطاول احد على سكانها, وكنا نعرف جميعا?حدود اللعبة ايضا, فلا تطأ اقدامنا ارض حارة اخرى الا مرور الكرام, واذا كانت ثمة خصومة معها فنلتف بعيدا عنها ولا ندخلها.
كبرت البيوت وضاقت الصدور, فبدأت تنمو ظاهرة الفنادق والشقق المفروشة, فأصبحت بيوت الاقارب والجيران غريبة, بعد أن كانت موئلا لزوار الصيف والضيوف العابرين حدود المحافظات او شطري النهر, أوجدنا الاف الصداقات الافتراضية والعشائر الفيسبوكية والتويترية والانستغرامية, وسقطت العلاقات الاجتماعية في غياهب الجُب, وصادقنا الذئب, واستقوينا على الحارة المجاورة بالاغراب, ونما داخل كل حارة مجموعة مرتبطة بالمال التمويلي, تحت تسميات اعجمية, تمويل اجنبي وتحوير قيمي, واسقطنا الشوارب كدليل لرجولة بعد ان نادى احد المنادين بأن ندع ?لشوارب على جنب.
وسط البيئة الجديدة نمت كل الظواهر الغريبة, لم تعد الحارة نظاما اجتماعيا, ولم يعد التسكع على الارصفة متاحا, فلا ارصفة في عمان او غيرها من المحافظات, وغابت ايام الذهاب الى السينما في الاعياد لشباب الحارة, ولم نعد نستعير من الجار الذي لا نعرفه اصلا بعض فرشات وألحفة او اغطية ثقيلة اذا ما كان الشتاء حاضرا, اذا داهمنا ضيوف من الضفة او المحافظة البعيدة والقريبة, بالكاد نعرف الجار وباسم ابنه الاكبر ان عرفناه اصلا, وقبضايات الحارة تحولوا الى زعرانها, فلا اهل للحارة اصلا بعد ان غابت المنظومة القيمية, والعونة او رحلة?الجيران الوحيدة التي كانت تستهدف الحقول او المناطق المخضرة, لالتقاط ما تيسر من مرّار وسعيسعة وضمة قمح لغايات حرقها لتصبح مقرمشات تسلية وحيدة للجارات والاطفال.
كل ذلك حدث دون ان نحافظ على المنظومة القيمية ونطورها, فغافلنا الزمان والمكان, وتغافلنا نحن وركضنا نحو ثقافة الاستهلاك واعلاء قيمة الانصاف والاشباه, ولما فاجأتنا الدراما الواقعية, بنقلها للواقع, اخرجنا من مخزون الذاكرة على غير العادة كل ما هو جميل من ذكريات, وارتفعت الاصوات الخافتة دوما تحت قبة البرلمان, لتبكي على واقع مُضاع, وكأن وظيفة الفن البقاء تحت مظلة الوهم او محاكاة الاحلام والتكاذب, صحيح ان ثمة نقلا جافا للواقع حدث في الدراما, ودون محاولة بسيطة لرفعه الى المقام الواجب, لكن الواقع اكثر بؤسا مما صورته?الدراما, فجرائم الجيران مرتفعة والاعتداءات المخلة بكل الموازين التي نعرفها وتربينا عليها حاضرة واسألوا الامن العام ودائرته المتخصصة بالاسرة, عن حجم التراجع المعيب.
اما بنات العم من الجيران او الاقارب, فكلها مطحونة واكاد اجزم ان هذا الجيل لم نورثه ثقافة ذوي القربى الا في اضيق الحدود, وبصورة في اغلبها مشوهة, وعلى الفرض الساقط ان الدراما قد تطرفت, فهل الحل ان نواجهها بتطرف على غرار سحب جنسية الممثل, هل هذا هو الحل الذي افاء به الله على المشرعين الذين نحمد الله انهم قلة قليلة, ام نذهب الى سلوكهم الحقيقي فنشكل قوة ردع تذهب الى الممثلين وسحلهم ضربا وشلاليط وبكسات في الشارع؟ الحارة وبنات عبد الرحمن حقيقة على الارض ولا يمكن نكرانها, وعلينا الاعتراف ثم المصالحة مع القيم ثم جب? الضرر الذي الحقناه بانفسنا وشكرا لمن قرع الجرس.
omarkallab@yahoo.com