عمر كلّاب
في فيلم “عسل إسود” الذي ابدع فيه الفنان احمد حلمي، ثمة اغنية تختصر كثير من المسافات، تقول في احدى جملها او كوبليهاتها “يا بلد معاندة نفسها، يا كل حاجة وعكسها” يا الله كم كان تجليات التعاكس والتناقض حاضرة في مساءات الجمعة المنصرم، اول ايام الهدنة، فالأسرى الفرحين بالحرية، يعانقونها على دماء لما تزل خضراء للشهداء، وبيوتات لما تزل تأن جدرانها وتتمايل من هول القصف، وجرحى على وعد الابرة او كبسولة تخفف الالم، فرح اسود بكل معاني العبارة والعبرة، وحفاظ مُرّ وخُلقٌ وعرٌ من المقاومين وعلى رأسهم اهل غزة كلها وابطال المقاومة المقاتلين.
سريالية لا اخال سلفادور دالي قادر على اختزالها في لوحة، او ان رائد التراجيديا الفلسطينية محمود درويش بقادر على نسجها في قصيدة، وسيعجز مريد البرغوثي عن اجتراح صورة شعرية، وهو ملك الصورة الشعرية الفلسطينية. في ظني، كان المشهد، فرح بمرارة، واحضان مبتورة الذراعين، وقُبل خالية من حرارة اللقاء، فاللقاء جاء على نهر من الدماء، لشعب يليق به الفرح، وحرية جاءت مُسوَرة باضلع مكسورة او مهشمة بعضها خرج للموت وكثيرها تحت الانقاض والجبائر.
لكن السؤال الواجب بعد ذلك كله؛ هل سيكون ثمن كل هذا هدنة تمتد لايام اربعة او عشرة او متصلة؟ هل ثمن كل ذلك مطالب بخزانات وقود راجلة، وشاحنات غذاء ودواء مجوقلة؟ سأبث قلقي على شكل احرف، فما يجري كله يفضي الى ذلك، طالما ان القراءة قاصرة عن الولوج الى عمق الازمة وثيمتها الاساس، الاحتلال، ومعناه ومبناه، ودولة مفترضة تائهة بين مقاومين ومنبطحين، في حاضنة عربية تناقضاتها الداخلية ربما اعلى من التناقض مع الاحتلال ذاته، وعالم رسمي يسمع صوتين، صوت الكيان الغاصب وصدى صوته، رغم كل التظاهرات التي جابت وتجوب الشوارع الكونية، ورغم صوت الجماهير الهادر والثائر من ادنبره الى تونس العاصمة.
فما حدث في شوارع العاصمة الاردنية عمان، يوم الجمعة الفائت يلخص التناقض والتعاكس في كل الساحات، حين قامت مجموعة من شباب الاخوان المسلمين بالاعتداء على عربة الهتاف ومن فيها للأحزاب القومية واليسارية، فهذا الانجاز لأصحاب اللحى والدشاديش وليس لغيرهم، وهذا بظني جوهر الصراع القادم، مَن اصحاب الحق بالهتاف، ومّن هو الاب الشرعي للإنجاز، وبإسم من ستصدر شهادة الولادة لمولود ما زال يسكن بين الصلب والترائب؟ فنحن كمن يمارس التحرش في يوم القيامة الذي يكون الناس فيه عراة كما ولدتهم امهاتهم، فهل هذا هو البناء المفترض لحالة وحدة تكرست على الارض تحت القصف والاحتلال؟
عندما قلت في امكنة متعددة وفي مقالات كثيرة، ان زمن الحرب وزمن الضيق، هو زمن طرح الاسئلة الحرجة، فقد سقطت نظرية لا صوت يعلو على صوت المعركة، غضب مني كثيرون، وعلى رأسهم الملتحون الجدد من اهل اليسار والقومية، الذين دخلوا الحرب من بوابة التأييد للمقاومة الاسلامية، فتأسلموا ربما لطلب المغفرة او للانسلاخ من وقع النوم في حضن قلة الحيلة والعجز، ومنهم للانسلاخ من ماضي تأييد السلطة البائدة وتأييد معاهدات الذل والعار، حتى انهم اغفلوا مقولة ان الفكرة لا تموت، واستيقظوا عليها مجددا وكأنهم لم يسمعوها من قبل، وكأن الفكرة اما اسلامية واما مصيرها الزوال. لكن، المقاومة فكرة انسانية لا تموت وليس لها وطن او دين، فالمقاومون يملؤون الدنيا هتافا ودعما، منهم بوذيون ولا دينيون ومتدينون من كل الاديان السماوية.
هذه الحادثة ليست طارئة، او مجرد انفعال لشباب فائرة مشاعرهم، بل هي جوهرية، ويجب ان تعيدنا الى اصل الفكر وجوهره، فاخطر الحروب هي الحروب على صعيد الفكر وساحته، واول الخسارة، ان يجرك خصمك للتفكير بمنطقه وفكره، فحينها تلعب على نفس ملعبه وبنفس تربته الفكرية، فتخسر منطقك وفكرك، وفي جوهر الصراع مع الاحتلال، يكون الفكر السائد فكر مرحلة التحرر الوطني، الذي يلتقي فيه الجميع على فكرة تحرير الوطن، اي اننا اليوم في هذه المرحلة في فلسطين وارضها، لكننا في غير فلسطين، لسنا كذلك، فنحن في مرحلة البناء الوطني، اي ان الفرز فكري وطبقي، وما يحكمنا قانون الوحدة والصراع، وحدة مع حماس بوصفها فصيل تحرر وطني في فلسطين، وصراع بمعناه السياسي والجماهيري مع جماعة الاخوان المسلمين، الذين يسعون في الاردن وغيره من الاقطار لاعادة لم صفوفهم وجذب الجماهير لفكرهم على قاعدة ان حماس جزء من منظومتهم العالمية، بوصفها جماعة الاخوان المسلمين في فلسطين، والتي انفصلت عن الجماعة في الاردن عام 2010.
وحتى لا نضع حماس في هذه الخانة، فهي قدمت نفسها بوصفها حركة تحرير وطني فلسطيني، وكل من يسعى الى خطف فكرتها، يتطاول على جوهرها، فهي اليوم تقوم بواجبها على ارض فلسطين كلها، بدليل ان قوائم الاسرى المفرج عنهم، هم من كل فلسطين وتنظيماتها وليسوا من حماس. فلتهدأ الرؤوس الحامية ولتنضبط الايادي التي تسعى الى خطف جوهرها، ولتعلم ان جميع التنظيمات في غزة تقوم بواجبها وتقاوم، وليس المجال هنا لذكر التنظيمات المقاومة لان الجميع شارك في الحرب من اصغر طفل الى اعلى فرد وتنظيم، فلسنا اليوم في باب الفرقة الناجية او بوابة الأسلمة والعلمانية، فكلنا خلف المقاومة، وهي دعوة لاصحاب الفكر اليساري والقومي ان يتذكروا تجاربهم السابقة، في مصر حين اعلن الحزب الشيوعي المصري حل نفسه بعد ثورة يوليو، وتجربة حزب تودة الشيوعي في ايران بعد ثورة الخميني، وحتى الحزب الشيوعي العراقي بعد سقوط نظام البعث، فالعاقل من يقرأ التاريخ لفهم الحاضر ورؤية المستقبل.
ما يحكمنا اليوم وما يجب ان نفهمه، قانون الوحدة والصراع، والاهم اليوم الاول لما بعد الهدنة، واليوم الاول لسكوت الرصاص والقذائف، هل نملك مشروعا وطنيا فلسطينيا، مسنود من حاضنة عربية ومدعوم من حاضنة دولية؟ ما زال الشك سيد الموقف وما زال الامل مشوش، حتى لو انتصرت المقاومة في غزة نصرا مؤزراً كما نتمنى جميعا، لكن المستقبل لا يُبنى بالأمنيات الطيبة، فالصراع محتدم على اكثر من جانب، وكما يتفتت الحلف العالمي من حول دولة الاحتلال، فنحن لا نملك حلفا او وحدة اصلا ويجب البناء من هنا.