عمر كلاب
الفساد فى الديمقراطيات هو فساد استغلال الوظيفة العامة, حتى لو لم تكن هناك مخالفة صريحة للقانون، بدليل أنك من الممكن ألا تخالف أى قانون، ولكن يمكن منعك من ممارسة بعض صلاحياتك كموظف عام, كما يجري في كثير من المؤسسات اليوم, حيث ترتجف يد المسؤول قبل التوقيع على اية معاملة او اجراء, والاهم ايضا ضرورة تطوير نوع جديد من المحاسبة قوامه, محاسبتك بسبب «إعطاء انطباع للآخرين عن استغلال المنصب».. إى والله، يمكن أن يُحاسَب المسئول فى الولايات المتحدة مثلاً ليس لأنه استغل منصبه، ولكن لأنه أعطى انطباعاً، حتى لو كان على غير أساس، أنه استغل منصبه، لأن ذلك يخلق ثقافة تبرر الفساد للآخرين على أساس معلومة كاذبة بأن فلاناً استغل منصبه لتحقيق مصالح خاصة، ولنطالع ما جاء فى الأمر الرئاسى رقم 11222 لعام 1965 الموقَّع من الرئيس ليندن جونسون الذى يقضى بأنه يَحرُم على أى موظف عام أن يتصرف على نحو يؤدى إلى أو يخلق الانطباع بأنه يستغل المنصب العام لتحقيق مصلحة شخصية أو أنه يعطى أى معاملة تفضيلية لأى منظمة أو شخص، أو أنه يعيق كفاءة العمل الحكومى أو اقتصاد الدولة، أو اتخاذ قرارات حكومية خارج الإطار الرسمى للدولة، أو ينال من ثقة المواطنين فى نزاهة جهاز العمل الحكومى، وغير ذلك كثير. قلت من قبل إن الفساد فى بلدنا أنواع ودرجات، بعضه محمى بالقانون ومتفق معه، لكن الفاسدين والمفسدين ليسوا سواء، بعضهم أقل ضرراً من بعض، حتى وإن تساووا فى الوصف بأنهم فاسدون تخيلوا معى لو أننا بصدد بناء مدرسة أو أى مرفق عام، سنكون أمام ثلاثة احتمالات كبرى لفساد الفاسدين: الاحتمال الأول: أن يتم بناء المدرسة بجودة عالية وبسعر مناسب، ولكن الفاسد حاول تحقيق مكسب شخصى بالحصول على امتيازات خاصة أو سمسرة دون الإضرار المباشر بالخدمة المقدمة، وهذه أقل درجات الفساد. الاحتمال الثانى: أن يتم بناء المدرسة بجودة عالية ولكن بسعر مبالغ فيه يجعل الفاسد يستفيد من فارق السعر لشخصه. الاحتمال الثالث: أن يبنى المدرسة بجودة أقل من الجودة المطلوبة أو ربما ببعض الأخطاء ويحصل الفاسد على امتيازات خاصة أو سمسرة مع ضرر شديد. بطبيعة الحال، فالفاسدون، على كل الاحتمالات السابقة، يبررون لأنفسهم دائماً سوء أعمالهم، ويرون فى أنفسهم أنهم مظلومون وأصحاب حق وأن فسادهم ليس فساداً أصلاً، وربما يستغلون ثغرات فى القانون بل قد يجدون من يتعاطف معهم، لأن الفساد يخلق ثقافته التى تغذيه وتدعمه، ومحاربة ثقافة الفساد لا تقل أهمية عن محاربة الفساد نفسه. إن ملف الفساد واحد من أخطر الملفات, وعلينا أن نتعامل معه بحذر وحرص، لأن الفساد قوى وممتد ومنتشر فى الفضاء العام ويؤخذ اشكالا متنوعة ومتجددة، تحت مسميات مختلفة, صحيح اننا استوردنا تجارب دول أوروبا الشرقية فى مكافحة الفساد, بإنشاء مفوضيات خاصة لهذا الغرض كانت ناجحة لحد بعيد هناك، ونجحت هيئاتهم, ليس فقط فى إدخال تعديلات تشريعية لسد ثغرات الفساد، ولكن خلق ثقافة مضادة للفساد بأشكاله المختلفة، وهذه مهمة صعبة ولكنها ليست مستحيلة, اذا توفرت الجدية وغابت الشخصانية في بلدنا. وأهم درس من دروس محاربة الفساد، ألا تدخل فى معركة ممتدة مع الفساد والفاسدين فى كل القطاعات، اختَر معاركك وابدأ بالفساد الأكبر بطريقة مباغتة، واكشف عناصر الفساد القائمة حتى تكتسب إجراءات محاربة الفساد مصداقية وشعبية وشرعية, فالفاسدون يُقوِّى بعضهم بعضاً، وقد يتآمرون ضد من يحاربهم لانقاص شرعيته والنَّيل من مصداقيته. الحرب على الفساد تحتاج تخطيطاً لا يقل عن التخطيط للمعارك العسكرية الكبرى, ونحن امام سيلان شعبي من اتهامات الفساد,سترتفع وتيرته مع حمى الانتخابات, وامام حالة ارتباك الموظفين خشية اتهامهم بالفساد, يجب ان نحدد الهدف ونمضي.