انتخابات 2024 من منظور مختلف

فجأة يتذكر كثيرون ان الاحزاب, طازجة وتفتقد الى الخبرة الانتخابية, في معرض التبرير لنتائجها الخجولة في الانتخابات النيابية الاخيرة, مسقطين بوعي او بدونه على الاغلب, تصريحات قيادات تلك الاحزاب في اتون الحملة الانتخابية, ومسقطين توقعاتهم عن حجم المقاعد التي سيحصلون عايها, تماما كما فعل رئيس الهيئة المستقلة للانتخاب, عندما تملص من اسئلة جوهرية عن تعداد المشاركين في الانتخابات , قبيل النتائج, بأن مهمته تنفيذية واجرائية, وليست سياسية, قبل ان ينقض على نفس الاجابة ويتغنى بالحالة السياسية, التي افرزتها صناديق الاقتراع.

ما زلنا نقرأ واقعنا دون جرأة ودون صرامة, تتطلبها اللحظة والواقع والمستقبل, ننحاز بسرعة الى النتائج ولا نقرأ الاسباب, فالجميع تغنى بنزاهة الانتخابات, وعدم التدخل الرسمي, وكأن معيار النزاهة فقط, هو حجم المقاعد التي يحصل عليها تيار الاسلام السياسي, وتحديدا حزب حبهة العمل الاسلامي بنسخته الاخوانية, ولعمري هذا نجاح ما بعده نجاح للحزب الاسلاموي, فهو الوحيد المستهدف وهو الوحيد الذي يواجه السلطة وادواتها, ولعل هذا افرز عطفا خاصا على الحزب ودعم لطمية الحزب التاريخية وسرديته غير الدقيقة, فما زلت على قناعتي, بان النسخة المطلوبة من المعارضة في الاردن, هي نسخة الاخوان وحزبهم, وثمة احساس عميق لدى السلطة وعقلها, بالرعب من المعارضة الديمقراطية الاجتماعية والمدنية.

سارت عملية الاقتراع دون تدخل, نعم, ولم يعكر صفو يوم الاقتراع اي حادث او اختلال, ووقفت السلطة على الحياد تماما, وهذا اصل الاشياء, ولكن ثمة نواقص في العملية نفسها, وثمة هندسة قبلية, اثبتت النتائج, عجزها وانحسارها بين الجهل وقلة المعرفة, فقبل الاقتراع, كانت حناجر القيادات الحزبية تهدر بالانتصار القادم, وبعدها ظهر بكثافة مصطلح الاحزاب الطازجة واحزاب الخبرة القليلة, وعندما قلنا بأن قيادات الاحزاب تم تخليقها في مختبرات وعلى قاعدة زبائنية, قامت علينا الدنيا ولم تقعد, بل وصل حد تصديق كذبة الحزبية, حدّ ان احد الامناء العامين لحزب كان يتصدر المشهد, الى الحديث لاعلامي, بأنه كان ناشطا طلابيا ويقود المظاهرات في الجامعة, ردا على سؤال حول تجربيته الحزبية الطازجة ونافيا لحداثة تجربته.

كل ما سبق مقدمة لقراءة الاسباب قبل ان ندخل في قراءة النتائج, ولنبدأ من المهمة الاسمى للهيئة المستقلة,اعني تنقيح وضبط جداول الناخبين, فقد اكتشفنا غياب عشرات الالاف عن الجداول, هذا باعتراف رئيس الهيئة, والسبب انهم لم يحددوا مكان سكنهم, رغم ان اشتراطات تجديد هوية الاحوال- بوصفها الوثيقة المعتمدة- الذكية, يشترط مكان السكن وقبلها مكان القيد المدني, فلو فعلا كان السكن غير محدد, فكيف حصلوا على بطاقة ذكية, وثانيا كان يمكن ادراجهم في القوائم تبعا لمكان القيد المدني, هذا سبب.

كذلك غابت الهيئة عن اي دور استباقي, في تنشيط الحياة العامة وتوضيح الية الانتخاب الجديدة وشكلها, طوال فترة الاسترخاء, التي عاشتها اللجنة منذ تظهير مخرجات اللجنة الملكية للتحديث السياسي, واكتفت بتنشية ياقات اعضاء مجلس المفوضين وتنشية كوادرها وياقاتهم, فلم تفعل اية محاكاة لتشكيل القوائم العامة, او القوائم المحلية, وهذا دورها بحكم ان ملف الاحزاب اصبح في عهدتها, ولم نسمع عن دورات تثقيفية للاحزاب او تدريبة على تشكيل القوائم والارتكان الى استطلاعات الرأي, وظهرت باعلان باهت وسمج, يقول “ما الك الا الصندوق”, رغم ان الدعاية العامة في البلد كانت, لشعار التفكير خارج الصندوق.

احد ابرز الاسباب ايضا, ان عطاء التدريب على التجربة الحزبية وكيفية ادارة ملف الانتخابات وحتى ملف البرامج الحزبية, تم احالته وفق علاقات زبائنية, لجهات ومؤسسات مجتمع مدني, لم يسبق لكثير من اصحابها العمل في اي حزب, او ممارسة اي نشاط سياسي الا من رحم ربي, واعني مركز واحد بعينه, فكانت التجربة اقرب الى بيض “البرُشت”, نيئة, وخالية من الدسم, حتى دعم الاحزاب ومشاريع ترتيب بيتها الداخلي كانت تتم وفق الية, غير مفهومة وتخضع لنفس الاشتراطات الزبائنية, رغم ان المبالغ المصروفة ليست قليلة.

ندخل الى الاحزاب, التي بدا بنائها على نظرية الهرم المقلوب, من اعلى الى اسفل, ولم يتم التفريق بين السياسي – على الفرض ان لدينا سياسيين- وبين الحزبي, فالحزب يصنع سياسي لكن السياسي ليس بالضرورة ان يصنع حزبا, وكل من حضر اوانه في الاحزاب لم يحن وقته, فليس الوزير بالضرورة سياسي, والنائب نشكو بانه اصلا خدماتي, فكيف نبدأ الاحزاب بتكنوقراط مشوه وبنواب خدمات, الم نصنع الاحزاب والتحديث اصلا للتخلص من التكنوقراط والخدمي؟ فبنينا احزاب مشوهة ابتداءا, وكانت الملاحظة انها, فقط لتدوير طبقة السلطة ولا اقول النخبة, ولذلك رأينا نتائج باهتة وتبريرات سمجة,

لحجم الخسارة التي منيت بها التجربة الحزبية ولا اقول الاحزاب, فهي لما تتشكل بعد على اسس صحيحة,وحتى الفائز الاكبر, وليهدأ اصحاب الرؤوس الحامية, والمنتشين بعد ارتفاع منسوب الورع, فالفائز ليس حزبا, بل جماعة دعوية, تعتمد على استثمار لحظة غرائزية, ومقاربات دينية لواقع سياسي مأزوم, بدليل ان حملتهم قامت على شعارات فضفاضة محليا, فهي عاكست شعار الاحزاب الوسطية الفضفاض فقط, رفعت سقفها فيما انخفض سقف الاخرين, لكن لم يقدم اي منهم حل, باستثناء ارتدائها ثوب المقاومة, ورفع شعاراتها, وهذا ذكاء تنظيمي, فالجماعة قائمة وليس لها حزب, والسلطة حزب ليس له جماعة.

السبب الثاني للفوز الكبير على مستوى القائمة العامة, ورقة الجوكر التي اغفلها كثيرون, واعني نقابة المعلمين, التي ضمت 120 الف عضو, في غالبيتهم العظمى, ساندوا النقابة واعضاء مجلسها, رغم كل ما شاب تجربة نقابة المعلمين من اخطاء وخطايا, لكنها نجحت في استنهاض مظلومية المعلمين, بدليل حجم الاصوات القادم من دائرة بدو الجنوب, التي ينتمي المرحوم نقيب المعلمين السابق لها, وكذلك شهيد المعبر, واظن ان القارئ الحصيف للارقام, سيرى كيف ان القائمة العامة حصدت ارقاما اعلى بالضعف تقريبا من ارقام القوائم المحلية, سواء في الدوائر التي خاضت بها الانتخابات بقوائم محلية او لم تدخل ميدان المنافسة فيها, لعلمها ان لا حضور لها هناك.

بقي ملف الاحزاب اليسارية والديمقراطية الاجتماعية والمدنية والقومية, وهي احزاب خاضت الانتخابات اسيرة لعقل ماضوي, اما فصائلي, واما مسكونة بهواجس الماضي من حجز ومنع سفر ويقين بان الانتخابات مشغولة سلفا, فخسرت بيدها, ولعدم قدرتها على التخلص من كهنة المعبد في سراديبها, الذين شكلوا عصابات داخل الاحزاب وشلل, احبطت التحالف الواسع, بل ولم تنجح حتى في اقناع رفاقها المقاطعين بالخروج من المنازل, وعلى الاحزاب اعادة قراءة الواقع بعين الديالكتيك وليس السلفية, فظاهرة حيدر الزبن يجب ان يتم البناء عليها, اي شخصية قوية عشائريا ومسنودة بملف وظيفي ناجح وصلب, فقائمة طريقنا حصدت من حيدر مدير دائرة المواصفات والمقاييس اضعاف ما حصد منها.

خلاصة القول وهذه العجالة السريعة,يجب استقالة او اقالة قيادات الاحزاب التي فشلت في تثبيت الحضور, وبناء احزاب على اسس منهجية, وعدم تضخيم تجربة حزب جبهة العمل الاسلامي, فهو لعب باوراق رابحة مسنود بإرث الجماعة الدعوي والاجتماعي وليس السياسي, فلا ارث سياسي لها سوى اللعب على التناقضات واستثمار الغضب والحالة الشعبية الفائرة, ولم نسمع منهم وعنهم اي برنامج سياسي طوال هذا العمر, فهذه جماعة تتقن هدم القائم لكنها لا تستطيع بناء شيء, وتجاربها المحلية والعربية واضحة للعيان, ويكفي ان نستذكر انها شاركت في برلمان 93 الذي تم انتخابه على قاعدة الصوت الواحد, وقاطعت البرلمان الذي يليه لنفس السبب, اي انها جماعة يراغماتية تتقن قراءة اللحظة والقفز عليها.وهي شريك موثوق للسلطة وليس نقيضا لها.

تجربة مهمة, يمكن البناء عليها, والتحضير للجولة القادمة منذ اليوم, شريطة امتلاك العقل النقدي العلمي, وامتلاك الجرأة على التأشير على مواضع الخلل, واعلاء قيمة المحاسبة الحزبية, فلا يجوز ان ننتقد السلطة لانها لا تحاسب, ثم تقوم الاحزاب بنفس الفعل.

عمون