مرايا – تمكن مجموعة من الباحثين الأردنيين من الجامعة الألمانية الأردنية والمعهد البروتستانتي الألماني للآثار وجامعة اليرموك من اكتشاف بحيرة، سميّت ببحيرة الجي، في المنطقة المحيطة لمدينة البترا الأثرية، وذلك بناءً على نتائج البحث العلمي المدعوم من صندوق البحث العلمي والابتكار، وبدعم لوجستي من سلطة إقليم البتراء التنموي السياحي والذي نشره الباحثون في مجلة Palaeo 3 المتخصصة.
قدر الباحثون تاريخ نشأة هذه البحيرة للفترة الممتدة من حوالي 70 الف سنة ولغاية حوالي 9 الاف سنة، وتغطي هذه الحقبة جيولوجياً نهاية عصر البلايستوسين وبداية الهولوسين، حصل ذلك ضمن الحوض التركيبي الناشئ عن الصدوع الرأسية التي تتضمن البتراء حالياً، هذا الحوض كان مغلقاً من الجهة الغربية (المشرف الآن على وادي عربة)، ومع وجود مناخ مطير في تلك الفترة نشأت بحيرة الجي والتي امتدت من منطقة وادي نملة في الشمال ولغاية رأس بطاحي في الجنوب، بطول حوالي 13 كم وبعرض تقديري حوالي 2.5 كم.
وبأقصى عمق يقدر ب 50 متر، وقد تشكل شلال في منطقة رأس بطاحي لتصريف المياه الفائضة باتجاه وادي صبرة دلالة على وفرة المياه في تلك الفترة، والتي تم خلالها شحن مياه حوض الديسي.
ومع نهاية البلايستوسين وتغير المناخ في بداية الهولوسين انحسرت البحيرة لتمتد من شمال منطقة التركمانية ولغاية مدفن الأفعى (سطوح) جنوباً، ونتيجة الحركات التكتونية (الزلزالية) والتي أثرت على المنطقة قبل حوالي 7 الاف سنة، وحركة الصدع الغربي للحوض، بدأ اتجاه تصريف المياه يتغير لتأخذ شكلها الحالي (من الشرق إلى الغرب)، مما أدى لانجراف الرسوبيات التي كانت قد تجمعت في البحيرة مفسحة المجال لوجود البتراء في وضعها الذي وجده به الأنباط مع تكشف الواجهات الصخرية الجاهزة للنحت.وعن دلائل وجود تلك البحيرة اشار الدكتور نزار أبو جابر، مدير المشروع ومدير مركز التراث الطبيعي والحضاري في الجامعة الألمانية الأردنية، إنّ من خلال المسح الميداني للمنطقة أثبت وجود ترسبات كربونية على منسوب ثابت وهو على 1060 م فوق سطح البحر وخط شاطئ آخر على 960 م فوق سطح البحر.
بالإضافة الى ذلك، اكتشاف بقايا لجذور أشجار متحجرة ورسوبيات شاطئية متماسكة (رصيص متماسك) ورسوبيات مكربنة من الطحالب الشاطئية والحاوية على أحافير متنوعة بحسب الدكتور محمد القضاة من جامعة اليرموك. ومن الأدلة التي اعتمد عليها الباحثون في دراستهم،٠
وجود دلائل على تآكل الصخور بفعل حركة الأمواج على منسوب ال 1060 م فوق سطح البحر، بالإضافة الى ذلك، فإن منسوب الحد الفاصل ما بين حوض بحيرة الجي وبداية وادي صبرة عند رأس بطاحي هو نفس المنسوب المذكور، وهنالك العديد من الأدلة المورفولوجية والترسيبية لوجود شلال قديم في ذلك المكان.
وتحدثت كاترينا حمارنة من المعهد البروتستانتي الألماني للآثار، المشاركة في المشروع، عن توزيع مواقع الاستيطان البشري في المنطقة، موضحةً بأن جميع تلك المواقع التي نشأت في الفترة ما قبل الفترة النطوفية (قبل 13000 سنة) كانت إما أعلى من منسوب ال 1060 متر فوق سطح البحر أو في وادي صبرة خارج منطقة بحيرة الجي، ومع بداية الفترة النطوفية بدأ الاستيطان في المنطقة التي تراجعت عنها مياه البحيرة.
وتستكمل بأن أكثر الأسئلة التي كانت تحيّر الآثاريين في البتراء هو تركز الاستيطان ضمن المرتفعات العالية والتي يصعب الوصول اليها الآن ابتداء من مواقع مثل بعجة وأم البيارة، وبهذه الدراسة فقط امكن فك لغز هذا الاستقرار في الاعالي.
بدوره أكد دكتور الاستشعار عن بعد ونظم المعلومات الجغرافية عبد الله الروابدة من جامعة اليرموك، ان اكتشاف وتتبع حدود البحيرة لم يكن مستطاعاً دون الاستعانة بتقنيات تصوير عالية الجودة باستخدام الطائرات المسيرة بدون طيار (الدرون) وصور الأقمار الصناعية بالإضافة الى استخدام احدث ما توصل اليه العلم من تقنيات اجهزة التوقيع المساحي ، التي مكَّنت من تحديد امتداد البحيرة.
بدورها اشارت الدكتورة سحر الخصاونة من جامعة اليرموك، إلى أن استخدام تقنيات التأريخ المطلق بظاهرة التألق الضوئي، وهي تقنيات حديثة تعتمد على تأريخ آخر مرة تعرضت فيها الرواسب لأشعة الشمس، أن تشكل الرسوبيات في البحيرة يعود تقريبا الى 70 ألف سنة، ولاحظت أيضاً من خلال زياراتها الميدانية، أن الرواسب الرملية السميكة في البتراء وخاصة في منطقة البيضاء، قد تشكلت في نفس الوقت وليس تدريجيا كما هو متوقع بالعادة، مما يدل على ترسب مفاجئ.
واكد الدكتور نزار ابو جابر ان هذا الاكتشاف يدعونا للنظر بطريقة جديدة لكيفية ومبررات استيطان الإنسان للبتراء، وأنه يمكن الاستفادة من هذه النتائج التي تعطي بعدا جديدا للسياحة الجيولوجية في المنطقة، ويفسر للعديد من الظواهر، مؤكداً إن هذا الاكتشاف يضيف للبتراء فرادة جديدة وتميّز لا تضاهيه مواقع اخرى في العالم.