مرايا – صحيح أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس خرج من المستشفى بعد أقل من أسبوعين قضاهما هناك، وصحيح أن السلطة وحركة فتح لا تتعبان من الطمأنة إلى أن الوعكة كانت عابرة وأن صحة عباس جيدة جداً نسبة لسنّه (82 عاماً)، لكن الصحيح أيضاً هو أن الحديث عن “مرحلة ما بعد عباس” انطلقت بزخم، ولم تعد الأحاديث عن الموضوع حكراً على الجلسات والهمسات الخاصة للسياسيين، بل أصبحت حديث الشارع الفلسطيني. ومثلما تعاطت السلطة مع موضوع الأزمة الصحية للرئيس على أنها أقرب إلى “أسرار الدولة” و”الأمن القومي”، فإن الحديث الجدي عن هوية الشخصية التي يمكن أن تخلف أبو مازن لا يقل غموضاً وألغازاً، بعد 11 عاماً من تعطل كل أشكال الديمقراطية والانتخابات في “التشريعية” و”الرئاسية” في السلطة الفلسطينية ومؤسساتها.

وكسر عباس نفسه، ليل الثلاثاء 29 مايو/ أيار 2018، حاجز الصمت عن الخلافة، فاختار مصطلحات أدبية عامة عن المرحلة التي ستلي خروجه من المشهد العام، وحاول تبديد المخاوف المتزايدة بشأن صحته وعدم وجود خليفة له، بالقول إن المؤسسات السياسية الفلسطينية لا تعتمد على شخص واحد فقط، وإن فلسطين “ستظل دائماً مليئة بالرجال الطيبين”. وتحدث عباس في وقت متأخر من ليلة الثلاثاء أمام اللجنة المركزية لحركة فتح، بعد يوم على خروجه من المستشفى حيث كان يعالج من التهاب رئوي.

وقبل كلام عباس، كان أحد المرشحين لخلافته، جبريل الرجوب، قد أدلى بدلوه قبل تعافي الرئيس الفلسطيني وخروجه من المستشفى، ليكشف أنه لا ينوي الترشح لأي منصب. وقال الرجوب لتلفزيون فلسطين إنه “في حال حدوث طارئ ستجتمع اللجنة المركزية وتختار مرشحها الذي سيخضع للانتخاب، وليس للإملاء أو أن يُفرض على الحركة بمظلة من فوق”، لافتاً إلى أنه لن يتنافس على أي منصب في المنظمة أو السلطة. لكنه عاد واعتبر أنه سيكون حيث تقرر حركة “فتح” وضعه.

وتتقاطع آراء المراقبين على أن موازين القوى القائمة لن تمكّن عباس من تعيين نائب له، وأن مرحلة انتقالية ضرورية ستتبع رحيله، تحافظ فيها كل موازين القوى القائمة المرتبطة مصالحها بالسلطة الفلسطينية على حالة من الهدوء النسبي مع توافق على تقاسم كعكة السلطة. ويرى هؤلاء أن “غياب الشيخ لن يعني غياب القبيلة أو تغييرها”. والقبيلة هنا هي التعبير المجازي المتعارف عليه في الضفة الغربية، خصوصاً للإشارة إلى السلطة الحاكمة للضفة الغربية حالياً في مستويي السلطة الوطنية وحركة فتح، بجناحها المقرب من الحكم. و”القبيلة” هي خليط من مراكز القوة السياسية والأمنية والاقتصادية، تتقاطع وتتشكل علاقاتها وفقاً لمصالح مشتركة فيدعم كل مستوى منها الآخر بشكل دائم وعفوي، لأن سقوط أو تضرر مستوى منها يعني سقوطاً للجميع.

ويقول الباحث عبد الرحمن التميمي، لـ”العربي الجديد”، إنه “طالما القبيلة موجودة الشيخ ليس مهماً. المهم أن لا تتفكك القبيلة. هذا هو الأمر الجوهري، لأن القبيلة لن يصعب عليها اختيار شيخ جديد”. وأبدى اعتقاده بأنه “سيأتي شخص سيكون قاسماً مشتركاً أعظم للتوافق الأميركي الإسرائيلي العربي وأخيراً الفلسطيني”.

وحسب ما يراه الخبراء والسياسيون، فإن “وجود هذه الفترة الانتقالية لا يعني عدم وجود منافسة حامية الوطيس للحصول على منصب رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، إذ تبدو بورصة الأسماء ساخنة جداً مع موازين قوى متقاربة إلى حدّ كبير، مثل مروان البرغوثي الذي يحظى بقاعدة شعبية تغذيها مواقفه داخل المعتقل ضد الانقسام والتنسيق الأمني ومع الإصلاح السلطة. لكن البرغوثي (58 عاماً)، المحكوم بالسجن لمدة خمسة مؤبدات، ربما يستطيع دخول الانتخابات في حال كان هناك قرار بها، لكن لن يكون ذلك عبر توافق من أقطاب فتح التي ترى فيه منافساً كبيراً”.

وفي حال وجود سيناريو انتخابات رئاسية، وعلى افتراض أن البرغوثي فاز فيها، فإنه لن يستطيع الحكم من خلف القضبان، وسيحتاج نائباً يمثل نهجه وينوب عنه في الحكم، وإن كانت الأنظار حينها ستتجه عالمياً نحو الإفراج عن الرئيس الفلسطيني المعتقل، وهذا أمر مستبعد.

ومن الأسماء المطروحة بقوة جبريل الرجوب (65 عاماً)، رئيس جهاز الأمن الوقائي السابق، الذي عزز قاعدة شعبية كبيرة على الأرض من خلال عمله في مجال رئاسة المجلس الأعلى للشباب والرياضة، ورئيس اتحاد الكرة واللجنة الأولمبية في السنوات الماضية، وبالتوازي عزز علاقاته الإقليمية، التي حاول القيادي المطرود من “فتح” محمد دحلان تخريبها، كما هو الحال في مصر، لكن فرص الرجوب بكل ما يحيط مرحلة عمله السابقة من انتقادات لن تكون سهلة.


طالما القبيلة موجودة الشيخ ليس مهماً. المهم أن لا تتفكك القبيلة

” بدوره، يقول مصدر فتحاوي، لـ”العربي الجديد”، إن “وجود رجل أمن في منصب رئيس دولة فلسطين، لن يكون أمر سهلاً. الشارع الفلسطيني لديه حساسية من رجال الأمن وما يرتبط بعملهم من تنسيق أمني مع الاحتلال الإسرائيلي”. والأمر ذاته ينطبق أيضاً على الرئيس الحالي للاستخبارات اللواء ماجد فرج، الذي يُعتبر الرجل الأقوى في الوقت الراهن، ولديه تحالفات إقليمية ودولية قوية، لدرجة أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أشاد بما يقدمه الأمن الفلسطيني من خدمات والتزام بمحاربة الإرهاب في المنطقة.

وفرج، وهو من مواليد 1962، والمعروف ببعده عن الإعلام، بدأ بالخروج عن هذه القاعدة في العامين الماضيين، فشارك في رمضان الماضي بالعديد من الإفطارات الجماعية لصالح مؤسسات زكاة وأخرى شبابية ودور أيتام وقدّم تبرعات على هامش هذه الإفطارات، احتفت بها صفحات الأمن على مواقع التواصل الاجتماعي. وفرج الذي تمّ تعيينه مديراً لجهاز الاستخبارات العسكرية عام 2006، وقفز فأصبح رئيس جهاز الاستخبارات العامة الفلسطينية في الضفة الغربية منذ 2009، من القيادات الأمنية الجديدة التي عينها عباس لتحل محل قيادات أمنية في عهد الرئيس الراحل ياسر عرفات.

أما رئيس الحكومة الحالي رامي الحمد الله، الذي يتم تداول اسمه كرئيس مستقبلي بعد نجاحه بنسج علاقات إقليمية ودولية جيدة خلال عمله رئيساً للحكومة، ولا سيما بعد بنائه تحالفات مع الأمن الفلسطيني، ترفضه موازين القوى في حركة “فتح”، إثر رفض ترشيحه كعضو مستقل للجنة التنفيذية للمنظمة في اجتماع المجلس الوطني الأخير، رغم رغبة عباس بوجوده، وهو في الوقت ذاته لا يحظى بأي رتبة تنظيمية في هياكل الحركة.

أما ناصر القدوة (65 عاماً)، ابن اخت الرئيس الراحل ياسر عرفات، والذي أمضى أكثر من ثلاثة عقود في العمل الدبلوماسي ممثلاً عن فلسطين، ورغم بعده عن شبهات فساد أو أي عمل أمني، إلا أنه لا يملك قاعدة شعبية في الحركة التي استقال من لجنتها المركزية قبل أسبوعين لشعوره بالإحباط وعدم قدرته على تغيير أي شيء في الحركة التي يحكمها عباس بشكل مطلق.