مرايا – على بعد أقل من أسبوع من انطلاق احتجاجات الأردنيين التي فجرها إقرار حكومة هاني الملقي “المستقيلة” قانون ضريبة الدخل، تتكشف ملامح “شارع جديد” في المملكة التي اعتادت على تنظيم المعارضة الحزبية التقليدية الاحتجاجات المعارضة للسياسات الرسمية.

ورغم أن شرارة الاحتجاجات انطلقت من النقابات المهنية التي أعلنت إضرابا يوم الأربعاء الماضي رفضا لإرسال حكومة الملقي القانون المثير للجدل إلى البرلمان، فإن حراك الشارع وحجمه واستمراره فاجأ قادة النقابات والمعارضة، تماما كما فاجأ الأجهزة الرسمية السياسة والأمنية.

فالمشاركون بإضراب 30 مايو/أيار لم يكونوا من منتسبي النقابات المهنية فحسب، بل شاركت فيه قطاعات واسعة من موظفي القطاع الخاص والتجار والشركات، لدرجة أن مراقبين وصفوا حجم المشاركة بـ”الصادم” لدوائر القرار التي توقعت مشاركة محدودة.

المفاجأة اكتملت بتوافد آلاف الشبان إلى محيط رئاسة الوزراء بمنطقة الدوار الرابع مساء يوم الخميس الماضي بعد قرار رفع أسعار المحروقات، وبالرغم من التراجع عن القرار بإيعاز من الملك، استمر حراك الشبان الذين حاصروا مقر الحكومة على مدى يومين، قبل أن تغلق الأجهزة الأمنية الطرق المؤدية إليها.

وإضافة إلى متظاهري الدوار الرابع، توسعت الاحتجاجات لتشمل المحافظات والأطراف، وبالرغم من أن بعضها خرج في نقاط تقليدية، فإنها تميزت بمشاركة شرائح غير تقليدية.

سليفي.. وأول مرة

على تويتر، كتب شبان قصص مشاركتهم لأول مرة في تظاهرة سياسية، وآخرون نشروا على حساباتهم على فيسبوك وتويتر وإنستغرام صور “السيلفي” أثناء مشاركتهم الأولى في المظاهرات، وبدى بعضها وكأنه احتفال من جيل يدخل لأول مرة حلبة الحراك السياسي في الأردن.

المظاهر غير التقليدية في الاحتجاج حضرت بقوة في اعتصام الدوار الرابع المستمر، فبدأ بإغلاق الشوارع المحيطة برئاسة الحكومة بالسيارات، وجلوس الشبان ضمن مجموعات في الشوارع المختلفة، والانتقال من شارع إلى آخر لإغلاقه.

وبدلا من “المهرجانات الخطابية” التي كانت تميز احتجاجات المعارضة المنظمة، ظهرت “مهرجانات غنائية” نظم خلالها شبان حفلات رددت أغاني وطنية تصدرتها أغنية “موطني”، فظهر عازفون ومغنون، إضافة إلى شبان رفعوا شعارات انتقلت من مواقع التواصل إلى الشوارع، وكان واضحا أن طرق التعبير غير منظمة من حيث الشعارات وطرق كتابتها، وحتى طبيعة الهتافات التي بدت ارتجالية في غالبيتها.

وبالرغم من حضورهم بين جمهور المتظاهرين، فإن الشبان المؤطرين سياسيا من إسلاميين ويساريين لم يتصدروا المشهد كما هي عادتهم، بل تصدره شبان “الشارع الجديد”، فغابت أعلام الأحزاب، كما غابت سيارات النقل التي اعتادت أن ترتفع عليها مكبرات الصوت الضخمة التي ترمز لقيادة المعارضة للاحتجاجات.

إعادة اكتشاف

وبرأي رئيس تحرير موقع سواليف الإخباري الكاتب أحمد حسن الزعبي، فإن الاحتجاجات الأخيرة أثبتت أن “المواطن الأردني أعاد اكتشاف نفسه من جديد”.

وقال الزعبي: “في هذا الحراك اكتشف المواطن الأردني بمحض الحدث أنه قادر على أن ينظم الصفوف والتوحد مع أي قوى، والصمود دون أيديولوجيا محددة أو قيادات ترسم له الطريق”.

وتابع “الحراك الحالي هو حراك نهري بامتياز لا رأس له ولا يمكن لسد أن يقف بوجهه، كل ما يعرفه أنه سيصب في بحر المكتسبات الوطنية لا غيرها”.

ويرفض الزعبي بعض التحليلات التي تصف حراك الشباب الحالي بأنه “طارئ وسينتهي بانتهاء الأزمة”، وأضاف أن “المعادلة تغيرت تماما، وتحول التذمر في مواقع التواصل الاجتماعي منذ سنوات لانفجار ياسمين وتظاهرات سلمية في الشارع الحقيقي”.

خارج الأطر التقليدية

وعن غياب الوجوه والأطر السياسية التقليدية عن الحراك الحالي، يرى الزعبي أن ذلك عائد لما يصفه بـ”تقاعس وجبن كل رموز السياسة والأحزاب، وبات اليوم أكبر تيار مؤثر هو تيار الشارع الذي لا يتلقى تعليمات إلا من وحي فطرته وطموحاته”.

ويشير الكاتب الصحفي إلى أن الأيام الخمس الماضية “كانت نموذجا حضاريا للاحتجاج عبر مظاهر سلمية راقية، وفنون إبداعية في الاحتجاج، وإصرار لا مثيل له، وتنظيم عفوي لكنه انضباطي أكثر من أي تنظيم”.

وقال أيضا إن الرهان نجح على وعي المتظاهرين و”التحامهم عاطفيا مع الأجهزة الأمنية التي اتخذت أسلوبا راقيا في التعامل، فكلاهما يدفع فاتورة مشتركة للفساد”.

وخلص الزعبي إلى اعتقاده أن الشبان الذين غادروا الواقع الافتراضي إلى الحقيقي “ماضون في حراكهم، ولن يؤثر عليهم تشكيل حكومة جديدة أو حقن تخدير، فالنزول للشارع أصبح قرارا والمحاكمة علنية”.

فجوة عميقة

قراءة أخرى قدمها الكاتب والمحلل السياسي الباحث في مركز الدراسات الإستراتيجية بالجامعة الأردنية الدكتور محمد أبو رمان، الذي اعتبر أن الاحتجاجات الأخيرة كشفت “حجم الفجوة العميقة بين جيل من الشباب الأردني المعولم الصاعد والطبقة الوسطى بفئاتها من جهة، والواقع السياسي من جهة ثانية سواء النخبة السياسية في دوائر القرار المختلفة أو الأحزاب السياسية والنقابات”.

وبرأيه فإن الشباب الذي ظهر بالاحتجاجات وأطلقت عليه أحكام جائرة، “يملك سقف توقعات عاليا، ويحمل ثقافة تتجاوز الطبقة السياسية المتكلّسة التي توقف وعيها عند عقود سابقة”.

وينقل أبو رمان – تجربته في الحوار مع مجموعات من الشباب الذي خرج في الاحتجاجات الأخيرة، ويقول “نسبة كبيرة منهم غير متضررين مباشرة من قانون ضريبة الدخل، لكنهم أجمعوا على أن ما أخرجهم هو الضغوط الاقتصادية والمالية والشعور بأنهم لا يستطيعون المكوث خارج دائرة الفعل السياسي أكثر”.

وبينما يرى باحثون وسياسيون التمهل قبل الحكم على الحراك الحالي الذي تجمع دوائر عدة على أنه كان مفاجئا بنوعيته وحجمه، يؤشر آخرون إلى التعامل المختلف من جانب أجهزة الدولة الأردنية معه لأنها أدركت أنه حراك مختلف يعبر عن شارع جديد.الجزيرة