مرايا – – من هنا يستعير زيدان صياغة المسرحين السياسي والشعبي لانتقاد هذه الشريحة، ممثلاً لها بشخصيات مقنّعة من الخلف، فسيان بين وجوهها وظهورها، سيان بين خلفها وأمامها، أمسها وماضيها البعيد. هي لعبة أقنعة تزدهر وتتورم موديلاتها الرخيصة بإجماع الصوت وتعدديته. الأحزاب هنا على اختلافها وتنازعها وأمناء أسرارها ليست إلا جوقة صماء واحدة. الخشبة أيضاً في خيار صاحب «سوبرماركت» تلين تحت أرجل ممثلي «فابريكا»، حيث الصفقات معقودة والأصوات لديها من يجمعها في كورال الدم وضرائبه.
يصبح الصراع بين المرشح أبو ليلى (محمد حداقي) ومنافسه وخطيب ابنته الوحيدة شادي (حازم زيدان) عابقاً بالمواقف الهزلية الساخرة، تصبح الفتاة (لمى بدور) ثمناً للفوز بانتخابات المجلس، ويصير للحملة الانتخابية مزاداً يديره الأب والأم (لوريس قزق) والخطيب بالتعاون مع مدير حملته (لجين إسماعيل) وفي مواجهة مع أبو الخير (فادي الحموي) هؤلاء جميعاً يصبحون في مبارزة محسومة النتائج تثري هذا وترفع ذاك من مواخير الليل إلى مطابخ السياسة. السياسة كدعارة للعقل وتصدير لنخب وواجهات تعتلي حصان الأيديولوجية المعطوب، كما تفعل عند تغيير ماركات سياراتها السوداء ذات الأرقام الذهبية. الجميع في حرب مع الجميع كما هم في تحالفات وائتلافات سياسية ترفع شعاراتها وتعلق صور حملاتها الانتخابية لتوضع القوائم وتفبرك عبر عملاء يقبضون حصصهم في مرابع السهر على حساب الشعوب المشطوبة أصلاً من حسابات هؤلاء.
حاولت اللعبة المسرحية إيجاد معادل مشهدي وبصري لافت، تمثل في ديكور هاني جبور الذي جعل الفرجة على مستويات عدة، مجزئاً الفضاء إلى شاشة في العمق تعرض لقطات من تظاهرات رقمية وبث تلفزيوني، ليكون بيت المرشح وغريمه على تلاصق عامودي يجمع بينهما درج حلزوني الشكل، فيما حضرت إضاءة مجد ديب لتؤطر الأمكنة المقترحة من «بيت» و «محل سهر» و «حمّام» و «غرفة سرية» و «صالة»، جنباً إلى جنب مع ما يشبه بورتريهات مفرّغة من صورها، متزاحمة ومتضادة في لونيتها الفاقعة وسعتها وتموضعها في فراغ اللعب الذي حافظ على مساحات متباينة لحركة الممثلين وذهابهم وإيابهم من وإلى عمق الخشبة ومقدمتها.
يؤكد العرض الذي أنتجته وزارة الثقافة ومديرية المسارح والموسيقى أن المسرح يبقى البرلمان السوري الحر على مسافة خطوات من مجلس الشعب في حي الصالحية الدمشقي. مناورة تتيح اليوم مشاغبات جريئة على واقع يقوم على إرضاء التشكيلات الاجتماعية الموجودة. فالعائلات والعشائر والأطياف الدينية والحزبية تريد أن تمثّل الشعب أو تمثل عليه، لا فرق، في حين يسعى عرض «فابريكا» إلى مداورة من نوع مختلف تدفع بالمتفرج إلى أن يكون عضواً مستقلاً في جمهور، ويشاهد عن كثب كيف تدار ألاعيب السياسة وكيف ينمو دهاقنتها الجدد على طرفي نقيض، فالمعارض والموالي شريكان في توزيع الغنائم وتقاسم الحصص، وكله باسم الشعب الغائب عن وعيه تحت طائلة البحث عن لقمة عيشه وتسليم أمره لولي الأمر.
هكذا يمضي مخرج العرض ومعدُّه إلى ثنائية جديدة في التعامل مع فن المسرح «الكوميديا والسياسة» محيلاً إياهما إلى حلبة مواجهة مع المسكوت عنه، والمزوّر بإتقان وبراعة، لا سيما أنه كان قد حقق صدامية مهمة في عرضه السابق «اختطاف»، والذي اقتبسه عن نص «الأبواق والتوت البري» للإيطالي داريو فو، مُديناً عبره تحالف المافيا والسلطة للاستثمار في الإرهاب، والاحتفاء المزعوم بالعمال ونقاباتهم الخلبية.
شهد العرض حضوراً متصاعداً للجمهور، عكس أجواء كوميدية اعتمدت التلاعب بالألفاظ والمفارقات الكلامية والمواقف الكاريكاتورية الساخرة، مما فتح الباب واسعاً على خيار زيدان الفني الجريء من حيث تفضيل «الكباريه السياسي» على شكل المسرح الجاد الذي كسر المخرج والممثل السوري نمطيته وتجهمه ووقاره القومي وخطابه اللغوي المتفاصح والمتعالي. منذ اشتغاله على الخشبة مطلع ثمانينات القرن الفائت، تخلّى زيدان عن النبرة الجدية للممثل وعن المبالغة في خطابيته، محوّلاً النحوية الخرساء إلى مفهوم اللعب الحرّ والبريء، ومنفتحاً في ذلك على شرائح أكثر تنوعاً من شرائح المثقفين والمتجهمين فنياً. فالمسرح العابس لم يكن يوماً من اهتمامات زيدان ولا من أولوياته، بل كانت الكوميديا نبعاً متدفقاً وأداة ذكية وماهرة في تحطيم أوثان ثقافية قبل أن تكون سياسية، مبدداً بذلك أوهام شارع الثقافة السوري المرتاح لماضيه المسرحي المجيد.