مرايا – عُمر كُلّاب – بإستثناء الايذاء البصري من رؤية راية الاحتلال وجنده المدججين بالسلاح , فإن الطريق الى القدس اقرب من حبل الوريد , واكثر جمالا من جداول واشجار ووجه حَسن , فالمركبة التي حملتنا الى هناك كانت تسابق الاسفلت وتطوي الطريق طيّا , وكأنها ركوبة تستجيب لاوامر فارسها , وليست اداة صمّاء من حديد , فالقدس غير , وصحوة الفجر مصحوبة برائحة الاسواق القديمة أبعد من مدى الإفهام .
كانت تعليمات القائم بالاعمال في السفارة الاردنية في فلسطين نزار القيسي , صامتة وكتومة لضمان سير الرحلة بوقار ودون صدام مع قطعان المستوطنين , فهذا الاردني البهي يدرك بحكم عمله حساسية القطعان من اي عربي يطأ ثرى القدس , فهو احد الممسكين بالملف المقدسي قبل خدمته في السفارة في رام الله كما كان واضحا من استقبال وحوار الشيخ عزام الخطيب معه , فنجح في المرور الآمن للوفد , كما نجح حرّاس المسجد في ايقاف متطرف حاول الولوج الى باحات الحرم المقدسي الشريف لحظة تفقد وزير الاشغال للمسجد الاقصى وقبة الصخرة .
في القدس سردية يختلط فيها الديني مع الانساني بتمازج غريب , فشيفرة المكان على شدة حنانها صلبة وصعبة , هناك وفقط هناك , يبكي اليساري ويذرف الدمع قبل المتدين , وتتساوى المسافات الفكرية في حفرة تدلفها مع انخفاضة في الرأس , كي ترى البهاء والضياء تحت الارض التي انخلعت من جذرها كي تلحق المصطفى والبراق , وهناك تجد السكينة والخشوع رغم ضوضاء الاحتلال , ولولا أزّل لقلت ان للخشوع عنوانا اسمه القبلة الاولى وكل ما تلاه ينهل من نبعه , فالحجارة ليست صمّاء صامتة , بل مبتهلة بخشوع المؤمنين .
هناك صمود اسطوري تسجله مديرية الاوقاف ويسجله كل مقدسي من صاحب الفندق الوطني الذي رفض مئات الملايين وبقي شوكة في حلق الاحتلال , الى بائع الخضروات على قارعة الحرم , وحتى مرضى التوحد يشاركون في الصمود فالشاب ” محمد ” الذي يعرفه كل سكان القدس وزائرو الحرم الشريف اكثر الشباب شراسة في مواجهة قطعان المستوطنين وجنود الاحتلال رغم اصابته بالتوحد , فهو مرابط مع كتيبة المرابطين المسنودين بحرّاس الاقصى ووعي شعب اقسم بالقدس الا تتهود القدس .
في القدس تسقط الحروف ومملكة الكلام , هناك كل حجر يروي قصة وكل مربع يروي حكاية وكل امرأة انجبت ثورة وكل رحم حمل شعبا كاملا , هناك يصلي المسيحي على صوت الاذان ويبتهل المسلم على قرع اجراس الكنائس , المعادلة ليست مقلوبة بل منتصبة مثل ميزان العدالة النموذجي , نرسمه خارج القدس شعارا وصورة , ويرسمونه في القدس سلوكا وتطبيقا دون امتنان او انشداه او فغر فاه , هناك يعلم الكل انه للكل ويعلم الفرد انه مشروع شهيد او سجين , ويقول الشيخ عزام الخطيب سيكون الدم شلالا اذا ما اقترب احد من الحرم اوحاول تمرير التقسيم المكاني والزماني .
في القدس يطابق الفرد الجغرافيا على خارطة القلب , لا تحتاج الى قصائد او روايات او افلام كي تستحضر المكان والعائلات , فكل اسم وحرف مطبوع على القلب , يسأل المهندس يحيى الكسبي عن منزل صديقه الشركسي ويتخطى الحواجز كي يراه حتى تحت حراب الاحتلال , فثمة امانة يجب ان توَفّى وثمة رسالة صامتة همسها الكسبي في اذن الجدار الذي ابتسم .
القدس اولى القبلتين في الصلاة وثالث الحرمين في الأجر لكنها اول وآخر قبلة للقلب حتى موعد التحرير وقبل ذلك التراتبية الاولى للقدس وفقط للقدس .