مرايا – أول الاستنتاجات التي يؤكدها اندلاع اشتباك معاهدة الصواريخ الاستراتيجية والمتوسطة بين موسكو وواشنطن، هو السقوط المدوّي للنظريّة القائلة بأن كل اهتمام روسيا كان منصباً خلال العقدين الماضيين على كيفية التدخل في ملفات نزاعات إقليميّة سعياً للتحرّش التفاوضي بواشنطن والحصول على صفقة تعترف لها بدور ما وتمنحها بعض المكاسب.

فالقضية في أزمة الصواريخ هي قضية روسية أميركية صرفة لا تتصل بطرف ثالث، كحال الأزمات الإقليمية. وهذا يعني أنه عندما تفتح هذه الأزمة، فيما لا تزال العناوين الإقليمية مفتوحة في أربع جهات الأرض، من أوكرانيا وكوريا الشمالية إلى فنزويلا وسورية وإيران، أن النزاع الأصلي الحاكم في العالم هو روسي أميركي، وأن كلاً من الطرفين يخوض حروبه عبر البحث عن تحالفات راسخة في خيار المواجهة مع الآخر، ولكن عينه على الطرف الآخر، وكيف يزداد قوة أو ضعفاً.

هذا يجب أن يكون كافياً لطرد الفرضيات القائمة على مساومات يمكن أن تجريها موسكو على حساب مَن تحالفهم، بل ربما يكون العكس هو القائم، خشية روسية من تسويات منتصف الطريق التي قد يعقدها حلفاؤها، كما كان حال كوريا الشمالية في فترة، وكما أرادت واشنطن من الاتفاق النووي مع إيران، لكن إيران فضلت مواصلة المواجهة مع واشنطن في سورية وفلسطين واليمن وسواها، عندما تثبتت من عزم موسكو على الاستمرار.

وكانت التضحية بالاتفاق النووي ثمناً لا بد من دفعه على هذا الطريق المشترك الذي ترجم بالانتصارات المشتركة في سورية.

في أزمة الصواريخ قضيتان يجب شرحهما، الأولى أن روسيا كانت مستعدة لمواصلة العمل بالمعاهدة شرط التزام أميركي حقيقي بمضمونها، لكن بدا واضحاً من ولاية الرئيس السابق باراك اوباما أن واشنطن عاجزة عن المضي قدماً فيه، بسبب ضغط جماعات الصناعات العسكرية لزيادة العقود مع الحكومة الأميركية وتضامن وزارة الدفاع وضباطها للخروج من المعاهدة، أو من آلياتها التطبيقية إذا صمتت موسكو على الخداع وقبلت مجرد الالتزام النظري، وهو ما كان مقبولاً لمدة في موسكو الضعيفة، لكنه ما عاد وارداً في زمن الرئيس فلاديمير بوتين، الذي قال مراراً إما التزام متزامن ومتوازن أو خروج من المعاهدة.

 الأمر الثاني في الأزمة هو ما بدا من توازن آخر في التهديدات المتبادلة، وهو يحدث لأول مرة منذ الستينيات في القرن الماضي وما عرف بأزمة خليج الخنازير حول كوبا بين موسكو واشنطن، ففيما تعلن واشنطن عزمها نشر صواريخ جديدة في الجوار الأوروبي لروسيا، ردّت موسكو بإعلان العزم على نشر صواريخ موازية في كوبا وربما أيضاً في فنزويلا.

أزمة الصواريخ هي آخر مساحات الاشتباك المفتوح بين موسكو واشنطن، بعدما امتلأت الجغرافيا ببؤر التوتر ودارت حرب العقوبات، ولم يتبقَ إلا الساحة الأصعب، وهي تعبير عن فرصة لا تزال مفتوحة للقوى التي ترغب بالتحرّر من الهيمنة الأميركية للاستثمار على موقع روسيا الحاسم في هذه المواجهة، حتى يتحقق التوازن المنشود على الساحة الدولية.