مرايا – بلغت العلاقات الفرنسية التركية هذا الأسبوع مستويات غير مسبوقة من التوتر في خضم الحرب الكلامية بين زعيمي البلدين. إذ لم يتوقف الرئيسان عن إطلاق تصريحات نارية وجه بها كل من أردوغان وماكرون سهام انتقاداته لنظيره بطريقة تبتعد في أحيان كثيرة عن تقاليد وبروتوكولات الدبلوماسية.

يجد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نفسه وسط “حرب كلامية” مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان متواصلة منذ شهور، بينما تستمر العلاقات بين البلدين في التدهور. يدور التوتر بين الرجلين حول عدة ملفات، أبرزها ما يعتبره أردوغان “إسلاموفوبيا” فرنسية، والنزاع على منابع الطاقة في شرق المتوسط، والدور العسكري التركي في ليبيا. لكن التصعيد بلغ مستوى غير مسبوق الجمعة عندما دعا أردوغان الفرنسيين للتصويت ضد رئيسهم في الانتخابات القادمة، التي من المتوقع أن يسعى خلالها ماكرون لولاية ثانية.

وقال أردوغان لصحافيين في إسطنبول بعد مشاركته في صلاة الجمعة الماضي في كاتدرائية آيا صوفيا السابقة التي تم تحويلها إلى مسجد في يوليو/تموز 2020، إن “ماكرون ’مشكلة‘ بالنسبة لفرنسا. مع ماكرون، تعيش فرنسا فترة خطرة جدا. آمل أن تتخلص فرنسا من مشكلة ماكرون في أقرب وقت ممكن”.

وخلال مقابلة مع منصة “بروت” الإعلامية عبر الإنترنت دعا ماكرون ردا على سؤال بخصوص هذا الكلام، إلى التحلي بـ”الاحترام” موضحا “مجتمعاتنا تزداد عنفا وهذا مرده أيضا إلى أن القادة يشكلون مثالا على العنف وأظن أن الحروب الكلامية بين القادة السياسيين ليست الوسيلة الناجعة”.

اعتبر الدكتور إيان ليسر المدير التنفيذي ونائب رئيس صندوق جيرمان مارشال أن لجوء أردوغان للانتقادات الدبلوماسية اللاذعة ليس بالأمر الجديد، إذ إن لديه نزعة “لاستخدام خطابه الشخصي كجزء من سياسته الخارجية”.

وأضاف “التوتر الفرنسي التركي ناجم جزئيا عن الشخصية… في بعض النواحي، يأخذ أردوغان هذا الخلاف بشكل شخصي، مع زيادة ضيقه بالغرب وموقع تركيا فيه، ويرى في فرنسا وقيادتها تمثيلا لكل ما يكرهه في أوروبا، حضاريا وسياسيا وجيوبوليتيكيا”.

هجوم أردوغان الأخير على ماكرون أتى قبل قمة مرتقبة للاتحاد الأوروبي في 10 ديسمبر/كانون الأول الجاري يتوقع أن تضغط فرنسا خلالها باتجاه فرض عقوبات على تركيا لانتهاكها المياه الإقليمية اليونانية في عملية التنقيب عن الغاز، وانتهاكها لقرار الأمم المتحدة بحظر تصدير السلاح إلى ليبيا.

لطالما تطلع رجل تركيا القوي لأن يجلس بجوار نظرائه الأوروبيين كعضو في الاتحاد، وكان يبدو في الماضي مستعدا لتنفيذ أي شروط تطلب من بلاده في سبيل تحقيق هذا الطموح. حتى أن تركيا وافقت على أن تكون حارسا لبوابات الاتحاد في وجه أمواج المهاجرين الساعين لدخول أوروبا. ولكن ربما تكون عضوية الاتحاد قد فقدت بريقها.

وبرأي ليسر “هناك نزعة عالمية لدى القادة لشخصنة العلاقات، ترامب وبوتين مثال على هذا، وأردوغان مثال آخر”.

وتابع “على مستوى ما الشخصية أمر مهم… ولكن عندما تمتزج بالتشدد القومي كما يحدث في تركيا وفي أماكن أخرى (يتخذ الخطاب) شكلا أكثر حدة”.

أردوغان يدعو لمقاطعة فرنسا

أجج أردوغان، الذي نصب نفسه متحدثا باسم العالم الإسلامي، التوتر ضد ماكرون عقب الاعتداءات الإرهابية التي شهدتها فرنسا في أكتوبر/تشرين الأول، عندما قام إسلاموي متطرف بقطع رأس مدرس التاريخ صامويل باتي عقب عرضه رسوما كاريكاتورية تصور النبي محمد على طلابه ضمن درس عن حرية التعبير، وقيام متطرف آخر بعد أيام بالهجوم بسكين على كنيسة نوتردام بمدينة نيس جنوب البلاد وأسقط ثلاثة قتلى.

بعد هذه الاعتداءات دعا ماكرون الفرنسيين للالتفاف حول قيم الجمهورية العلمانية في مواجهة اعتداءات المتطرفين. ولكن خطابه “العاطفي” تسبب ببلبلة عندما قال إن الإسلام “يعاني أزمة في كل أنحاء العالم اليوم”، خصوصا وأن هذا جاء بعد فترة قليلة من حديثه عن “النزعة الانفصالية الإسلامية” في فرنسا. رد أردوغان كان سريعا وشخصيا، إذ قال إن ماكرون يحتاج “لفحص سلامته العقلية”.

صب أردوغان الزيت على النار باتهام دستور فرنسا “بالإسلاموفوبيا” داعيا المسلمين في كل مكان لمقاطعة البضائع الفرنسية. وطالب بتضامن المسلمين الفرنسيين أيضا، الذين قال إنهم “ضحية حملة تضييق شبيهة بما تعرض له اليهود في أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية”.

وبينما أحرقت دمى تصور ماكرون في باكستان ومصر وإيران، لم تلق دعوات أردوغان آذانا صاغية في باقي أنحاء العالم العربي.

نددت الخارجية الفرنسية من جهتها بتصريحات أردوغان واعتبرتها “بروباغاندا” تركية ضد فرنسا وقامت مباشرة بسحب سفيرها من تركيا.

تلميع الصورة الداخلية

عدا عن دور الشخصية في إشعال إذكاء نار العداء بين الزعيمين العنيدين، تلعب أيضا رغبة كل منهما في زيادة شعبيته داخليا دورا في ذلك.

قالت أسيل أيدينتاسباس الزميلة في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية في تصريحات لصحيفة واشنطن بوست “وجد كل من ماكرون وأردوغان في الآخر العدو المثالي. هذا التراشق الكلامي يخدم مصالح كل من الزعيمين بشكل غريب، على المستوى الداخلي وعلى مستوى التأثير الذي يسعى كل منهما لعرضه خارجيا”.

وحتى مع اقتراب تولي إدارة بايدن الحكم في الولايات المتحدة، والتي يتوقع أن تلعب دورا أكثر فاعلية على المستوى الدولي، بما في ذلك ما يتعلق بأوروبا، إلا أن ذلك ليس كافيا ليخفف أردوغان حدة هجومه على ماكرون.

وقال ليسر إن “أردوغان سياسي بارع انتقل من مجدد ليبرالي إلى حاكم مطلق أكثر تصلبا… هناك ثمن بخس جدا يدفعه داخل تركيا لموقفه المعلن ضد فرنسا وأوروبا. إنه مكسب إضافي لرصيد أردوغان لأن المشاعر القومية واسعة الانتشار، حتى في صفوف المعارضة”.

قد يكون لدى ماكرون هو الآخر دوافع داخلية. دفاعه الشديد عن العلمانية إثر سلسلة الاعتداءات الأخيرة ومحاولاته لجعل الممارسة الدينية الإسلامية أكثر تماشيا مع الثقافة الفرنسية قد تدعم فرص إعادة انتخابه إذا واجه زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان عام 2022.

وأكد ليسر أنه “فيما يتعلق بعلاقة فرنسا الأوسع بالعالم الإسلامي، ستكون تركيا طرفا في معادلة السياسة الخارجية الفرنسية… وفي نطاق مساعي الرئيس لإدارة هذه العلاقة، لا بد أن يحسب الجانب الفرنسي إلى أي مدى يريد التضييق على أنقرة”.