مرايا – بقلم: الحسن بن طلال
يتزامن احتفالنا بعيد ميلاد جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين هذا العام، مع بدايات احتفالات الوطن بدخول المئوية الثانية للدولة الأردنية وذكرى النهضة على مدى القرن الماضي المليء بالأحداث المصيرية (1921-2021). وهذا التزامن بين عيد ميلاد القائد وأعياد الوطن، يوحد تهانينا لجلالة الملك ولأردننا الغالي معا، بأن يجعل الله جل وعلا الأيام القادمة أيام فكر وعمل وإنجاز، إنه سميع مجيب، وبعد،
نقفُ على عتبة المئوية الثانية من عمر الدولة الأردنية، وهو حدث استثنائي لا يمر في حياتنا أكثر من مرة، فقد مرت عشرة عقود طويلة على تكوين إمارة الشرق العربي، وهي مدة كافية تعطينا فرصة القراءة الواعية لمفاصلها، لتقييمها أولا، والتخطيط الواعي لتثبيت أقدامنا في المئوية الجديدة للدولة، ونحن في إقليم مضطرب، وعالم سريع التغير، ليكون عبورنا إلى هذا الزمن الجديد آمنا، ولنعيد تعزيز دعائم الدولة بمعايير الحداثة والأصالة معا، وابتداء لا بد من تحديد المفاصل الآتية:
– ما هي الدولة التي نريد للمئوية الثانية؟.
– وما هو المجتمع الذي نُخطط له في المئوية الجديدة؟
– وبالتالي، ما هي المؤسسات التي نُقيمها ونطورها في ظل إطار تشريعات عصرية قابلة للثبات والتجدد؟.
– وأخيرا، ما هو خطابنا المحلي والإقليمي والعالمي للمئوية الثانية؟ ومن الذي يمكنه صياغة مثل هذا الخطاب القابل للتوازن بين هذه الدوائر الثلاث، ونحن في عالم التكنولوجيا والحداثة التي تصل حد سرعة الضوء؟ النُخب أم العلماء أم أصحاب القرار أم الجيل الشاب الذي يملك مفاتيح العصر القادم؟.
الركائز والهوية أولا:
تعد إمارة الشرق العربي من أقدم الدول التي قامت في الإقليم على أرض الدولة العثمانية المنهارة بعد المملكة السورية، وتأسست في فترة قلقة وصعبة، فقد انتهت الحرب العالمية الأولى قبل أقل من ثلاثة أعوام، وانهارت مع نهاياتها إمبراطوريات ودول، وتفتتت الدولة العثمانية لدول جديدة، ورسمت الدول المنتصرة مصير الشعوب والعالم الجديد بخرائطها واتفاقياتها السرية والمعلنة، وفي الوقت الذي نجح فيه العرب في إعلان نهضتهم، كانت الحركة الصهيونية تنفذ خطتها المرسومة بتزايد حركة الهجرة إلى فلسطين بدعم الدولة المنتدبة بريطانيا، وقد أحبطت فرنسا بصراع النفوذ بينها وبين بريطانيا مشروع سورية الكبرى والتكامل بين بلاد الشام، وقضت على أول مملكة عربية أقامتها دولة النهضة في سورية، فخرج الملك فيصل الأول من دمشق، في أول خطوة لتنفيذ اتفاقية سايكس–بيكو على أرض المشرق العربي، والتي شهدت تغيرا متلاحقا للقوى على أرضها، بحيث أصبحت بريطانيا وفرنسا هما اللاعبان الرئيسان في المنطقة، بموافقة أممية من عُصبة الأمم. في ظل هذه المتغيرات الدولية المتلاحقة، نشأت إمارة الشرق العربي على أرض شرق الأردن (كما أطلق عليها الجد المؤسس عام 1921).
شهدت منطقة شرق الأردن ما بين أعوام 1918م و1921م أحداثا مصيرية متلاحقة على أرضها، نلخصها بما يأتي:
مع انطلاق النهضة العربية عام 1916م، شارك أهالي شرق الأردن في أحداثها، وانضموا لجيش الشمال مع الأمير فيصل بن الحسين، وقد سجل الأمير زيد بن الحسين في مذكراته أعداد المشاركين في الجيش من أهالي شرق الأردن ممن ساروا مع الجيش العربي من العقبة حتى دمشق، وكانوا بالآلاف، وقد حملوا راية النهضة العربية وفكرها وانضموا لصفوف الجيش العربي، ومنهم من تحول للخدمة في فلسطين وحرس الحدود والجيش العربي، وهم الذين سيشكلون المُكون العسكري والشعبي لدولة إمارة شرق الأردن عام 1921 لاحقا، وهو ما تحقق بتسمية هذا الجيش بـ (الجيش العربي).
مع نشأة الحكومة العربية في دمشق، عام 1918م أصبحت منطقة شرق الأردن جزءا من أول دولة عربية تقوم على أرض المشرق العربي، وشارك العديد من أهاليها في الإدارة مع الأمير فيصل، ويُسجل لنخبةٍ من رجالها مشاركتهم في المؤتمر السوري عام 1920م في دمشق مندوبين عن الأهالي، حيث تم تنصيب الملك فيصل الأول ملكا على سورية في الثامن من آذار تحقيقا لدعوة الشريف الحسين بن علي (ملك العرب) بإقامة دولة الوحدة العربية على أرض المشرق العربي، وكانت مطالب رجالات المؤتمر السوري هي الركيزة التي كونت خطاب دولة الإمارة بعد أشهرٍ من انهيارِ مملكة سورية، وهو الخطاب الذي أجمعت عليه كل الفئات والنخب في بلاد الشام.
وتنفيذا لاتفاقية سايكس–بيكو، أطاحت فرنسا في معركة ميسلون (24 تموز من عام 1920م) بالمملكة السورية، وخرج الملك فيصل الأول من دمشق، وأصبحت منطقة شرق الأردن موزعة بين العديد من الكيانات المحلية فيما عُرف بفترة «الحكومات المحلية»، وكان الأهالي يطالبون باستقلال سورية ووحدتها ويرفضون تقسيمها، في الوقت الذي أقرت عصبة الأمم الانتداب البريطاني على كل من فلسطين وشرق الأردن، والانتداب الفرنسي على سورية ولبنان، وهذا يعني أن الأهالي في شرق الأردن شهدوا الانتقال من العهد العثماني طويل الأمد، إلى أول حكومة عربية تحمل فكر النهضة، وكانوا جزءا من هذا المُكون الذي يستند إلى روح النهضة، لكنهم فقدوا وللمرة الأولى فرحة الانتماء لأول دولة عربية في المشرق، وتفرقت العشائر الأردنية في إطار كيانات محلية، بانتظار الإرادة التي تعيد حلم الدولة العربية وسورية الموحدة من جديد.
هذه هي الظروف المحلية والإقليمية والدولية التي نشأت فيها إمارة الشرق العربي، فزمن نشأة الدولة يحمل مبررات بقائها، لأنها قامت على أسس النهضة العربية، وكان مؤسسها الأمير عبدالله بن الحسين قيادة فكرية وعسكرية وسياسية منذ قيام الثورة العربية في الحجاز، فقد شغل منصبا حكوميا في مملكة الحجاز الهاشمية، وكان من قبل عضوا في مجلس «المبعوثان» العثماني في إسطنبول، كما قاد حملة الطائف وهزم الجيش العثماني المرابط في الطائف، وتمتع بمقدرة لغوية مكنته من تشكيل شخصية قيادية خطابية، وتمتع بقدرات القيادة لتأسيس الدولة الجديدة، وأول عناصر تأسيس الدولة تمثلت بتوفر عنصر قيادي يقوم على خلفيته الهاشمية، ويملك مؤهلات معنوية وفكرية وسياسية وعسكرية، أما العنصر الثاني فتمثل بالروح التي تجمع أبناء الدولة الجديدة وهي روح النهضة، التي شارك فيها أهالي شرق الأردن، والإيمان باستقلال سورية ووحدتها، وهذه الروح هي التي ظلت تشد أبناء الإمارة منذ زمن التأسيس.
ولتثبيت هذا الكيان السياسي، والحفاظ على قيم النهضة بالحرية المسؤولة، والدفاع عن التراب والوطن المقدس، تأسس الجيش العربي الذي شكل الدعامة المبكرة للحفاظ على حدود الإمارة، التي قامت متاخمة لمناطق تشغلها دولتا الانتداب الفرنسي والبريطاني، وهذه الحدود تعتبرها العشائر العربية العابرة للحدود مسارات تقليدية موسمية لها، وعادة ما كانت تعبرها في حالات الغزو المعروفة، وقد أدت التغيرات السياسية بعد الحرب العالمية الأولى وقيام الدول في بلاد الشام، إلى عقد معاهدات تُحدد مساراتها وتمنع حالات الغزو، وكان هذا سببا من أسباب تشكيل ما عُرف «بمحكمة العشائر» برئاسة الأمير شاكر بن زيد، ومأمور العشائر، والتي وإن هدفت إلى تطبيق القانون العشائري السائد في تلك الفترة، إلا أنها أسست لقضاء عشائري قائم على أساس حفظ الحقوق وصيانة المكتسبات. وبعد أن ترسخ مفهوم القانون الوضعي الصادر عن السلطة التشريعية أصبحت المحاكم النظامية هي الأساس في فرض سيادة القانون. فهذه التعددية المؤسسية في إرساء الأحكام العشائرية تليها القواعد القانونية بحاجة إلى أن يتم استذكارها في مئوية الدولة الأردنية انطلاقا من أن دولة المؤسسات والقضاء هي دولة قوية ومتماسكة. فكما كانت الحكومات في القدم تسعى لتوطين العشائر العابرة للحدود ما بين الدول الجديدة في سورية والعراق والمملكة العربية السعودية في محاولة منها لتأكيد سلطتها التي تتحرك القبائل والعشائر في إطارها، فإن الحكومات في عالمنا اليوم يقع عليها مسؤولية بسط نفوذها على جميع مكونات شعبها وعلى أجزاء إقليمها كافة، بما يتوافق مع المفهوم الدستوري الحديث للدولة القانونية.
إن توافر روح النهضة، استمر مع التأسيس بقدوم عناصر عديدة من الكفاءات من أهالي بلاد الشام والحجاز من أحرار العرب الذين ساهموا في الثورة العربية الكبرى عسكريا وإداريا إلى عمان مع بدايات التأسيس، وقد شغلوا مناصب قيادية وأداروا الملف السياسي والعسكري والاقتصادي والتعليمي والتشريعي بقيادة الأمير عبدالله، واستقروا وتجنسوا بالجنسية الأردنية، وكانوا في مواقع المسؤولية إلى جانبه ونستطيع القول بعد هذه القراءة التحليلية للبدايات بأن تجربة التأسيس قبل قرن قامت على أسس فكرية تمثلت بروح النهضة، وعلى وجود كيان يحمل فكرا قوميا يقوم على وحدة سورية ورفض تقسيمها، وعلى إقامة جيش عربي شكلته عناصر عسكرية من المؤمنين برسالة النهضة، وحملوا راية النهضة العربية، التي أرسلها الشريف الحسين بن علي للأمير عبدالله، والتي ما زالت راية المملكة الأردنية الهاشمية، وهذه البدايات تؤشر على أن مسيرة المئوية الأولى للدولة كانت متوازنة، ويمكننا القول بأنها تدفعنا للعمل على دخول عتبة المئوية الثانية بأسس راسخة ومتينة، آملين أنها لن تكون مئوية تقليدية أو قلقة.
وبناء على هذه القراءة للأرضية التاريخية نطرح التصور لقراءة محاور الدولة والمجتمع والخطاب المطلوب والمؤسسات، ونحن على عتبة المئوية الثانية، فما هي الدولة التي نريد للمئوية الجديدة؟
الدولة التي نريدها للمئوية الثانية:
كيف ستكون دولة المئوية الثانية استمرارا لدولة المئوية الأولى؟
لا بد وأن نميز بين روح الدولة وهي كما نراها ثابتة، وقد قامت عليها الركيزة الأساسية وهي النهضة والتنوير، وهذه الركيزة لا مجال للتفكير بتغييرها، بل وبعثها بروحها التي تتجدد ولا تموت، وعن دولة الإمارة التي حملت هذه الركيزة التي جعلتها تستمر وتبقى عصية على الاختراق، وفي الوقت الذي تخبو فيه وتضعف روح دول أخرى لم تستند إلى أسس جماعية تدعمها فاهتزت أمام العواصف، ونحن نرى أن روح النهضة تتجدد فينا لأنها تحمل التنوير ولا تمثل القيادة الهاشمية وحدها، بل إنها إرث مشترك توارثه القيادة والشعب معا منذ عهد النهضة ورجالاتها، وهي الروح التي ندخل بها المئوية بثقة، ونحملها نبراسا غاليا شاركت بحمله النخب الفكرية من أهالي بلاد الشام، والقيادات العسكرية العراقية والأردنية والسورية واللبنانية والحجازية واليمنية، ومن هنا يأتي امتياز هذه الشعلة العربية التي ستضيئ الزمن الأردني الجديد.
دولة المئوية الثانية تقوم على خطاب حداثي ومتنور، تكون فيه الحكومات مدنية، يسندها الدستور الذي قام على متانة دستور عام 1952م، وتحميها التشريعات القابلة لروح العصر تلبية لحقوق الفرد والمواطنة وتحقيقا للعدالة والمساواة التي تشكل الركيزة الأساسية، وتتحقق بها حقوق الجميع، مسترشدين بمقولات الملك فيصل الأول الذي كان يؤكد في خطبه لأهالي بلاد الشام «لا يوجد بيننا أقليات وأكثريات نحن شعب واحد»، وبما حققه دستور عام 1952م. وإذا أردنا اختصار رؤيتنا لخطاب الدولة والمواطنة وعلاقة المسؤول بالمواطن، فلا بد من التوقف عند أمرين في المئوية الأولى:
أولهما: رسالة عمان التي تُشدد على روح التسامح والتعددية والاعتدال والوسطية، وهو ما يتناسب مع المجتمع الأردني عبر تاريخه خلال المئوية الأولى من عمر الدولة.
وثانيهما: الأوراق النقاشية السبعة التي قدمها جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين، وحدد فيها الرؤية والاستراتيجية، ورسم المنهجية في الفكر المتجدد في المؤسسات، وهي مكملة للدستور ولروح النهضة، وتعتبر خارطة طريق مستقبلي تحتاجه الدولة والمجتمع لرسم الزمن القادم، وهذه الأوراق النقاشية حالة متقدمة في العلاقة بين الملك والمواطن والدولة ومؤسساتها، وهي استمرار للخطاب الهاشمي الذي بدأه الشريف الحسين بن علي (ملك العرب) وأبناؤه الأربعة، وتابعه الملك طلال بن عبدالله وتجسد في الدستور الاردني في عام 1952، وتجلى في خطابات الملك الحسين بن طلال عبر ما يقرب من نصف قرن من عمر الدولة الأردنية.
وتظل المشكلة التي يجب الوقوف عندها باهتمام، هي خطاب الحكومات في المئوية الأولى، وآلياته وكيفية تفاعل الشعب معه، وهنا يجب أن نتوقف مليا مع مستوى هذا الخطاب ومصادره ومرتكزاته، ودراسة ردود الفعل الشعبية من النخب السياسية والفكرية والاجتماعية على كل المستويات، وتقييم هذه الردود لفهم مكونات الخطاب الرسمي، وتحليله وتقييمه، من أجل تقديم خطاب المئوية الثانية بموضوعية، لرتق الهوة بين الحكومات والشعب بكل مكوناته، وبناء حالة من الثقة التي يستشعر الدارس أنها تكبر ولا يمكن السماح باستمرارها.
ونحن نرى أن هذا هو التحدي الذي يجب حسمه مع مطلع المئوية الثانية، لئلا تستمر آلية الخطاب، ولئلا يتم إقصاء الفئات التي تمتلك الكفاءات المناسبة للزمن القادم، ولئلا تتكرر الوجوه وتدور في دائرة مغلقة. إن الكفاءات الجديدة التي تحمل دم التجديد هي المطلوبة في كل الميادين لتثبيت مفاصل الدولة، والوقوف في وجه التكرار الذي يرفضه الشارع.
ملف الإدارة الموحدة للدولة :
هذا المطلب يطرح معضلة الحاكمية الرشيدة في مؤسسات الدولة كافة الأهلية والرسمية والخاصة، حيث إن التطور يخلق تحديات مستمرة من حيث المواءمة ما بين الحداثة والمعاصرة على أساس الكفاءة، وضرورة تطوير الحقيقة ورسم استراتيجيات مدروسة، وأولويات تعلي الصالح العام للجميع بلا تمييز وتبني القناعات كخطوة أولى لبناء الثقة وتأسيس المواطنة، بالإضافة إلى الاعتماد على العمل المؤسسي بدل الشخصيات. كما أن المؤسسات التعليمية والاقتصادية والتشريعية لا بد لها من خطط مستقبلية لا يهزها تغيير الشخوص الذين لا يوجد ضمان لحياتهم، في حين تستمر الخطط حية ومتجددة لو عملت بها المؤسسات، ونحن دولة مؤسسات قامت مع بدايات التأسيس، لكنها أصيبت بنكسة الارتباط بالشخصيات وهو ما يجب معالجته، شريطة التشبيك بين المؤسسات بروح علمية، ودعم هذه المؤسسات بالقدرات الحيوية والفاعلة، واستبدال النمط الإداري التقليدي، وهذا بيت القصيد في سياسة تفعيل الإدارة في المئوية الجديدة.
هذه هي صورة المؤسسات التي نريد، والتي تقوم على التخطيط والبرمجة المدروسة والمتصلة، وعلى التشبيك وتكامل النظم بين المؤسسات، وهذا تحدٍ كبير لأنه يغير في الاعتماد على الأشخاص، وعلى العمل وكأن المؤسسات ليست في دولة واحدة.
ويتصل بموضوع تحديث الإدارة مسألة على جانب كبير من الأهمية، وهي تحديث التشريعات الناظمة لعمل هذه الوحدات الحكومية والتي يعتمد عليها الفرد بشكل يومي في إشباع حاجياته الأساسية، فالإدارة المتجددة تقوم على التشريع الذي يملك القدرة على التحديث والتغيير والتشريعات المتكاملة والنظم المتداخلة الهادفة. أما الحكم على فعالية التشريع وقدرته على تحقيق الغاية منه في تعزيز منظومة عمل الإدارة، فيكون من خلال الوقوف على الأسباب الموجبة لإصداره، والتي تتمثل في المبررات والحجج التشريعية التي دفعت المشرع الوطني إلى إخراج هذه القواعد القانونية إلى حيز النفاذ. وضمن هذا الإطار، فإن العناقيد المتشابكة من التشريعات والقواعد القانونية الفاعلة المتجانسة التي تصدر وفق أحكام الدستور هي الأداة القوية بيد الإدارات الحكومية في معرض مباشرتها لمهام عملها كمرافق عامة تقدم خدمات وأنشطة أساسية للفرد الذي يتعامل معها. بالتالي إذا أردنا إدارة ناجحة فعلينا أن نضع بيدها تشريعات متطورة وقوية قادرة على تفعيل دور الإدارة وتصليب موقف المدير الجريء لمكافحة الفساد والتصدي له بقوة وبلا محاباة، وهذه سلسلة واحدة متماسكة (الإدارة الواعية والنظيفة، والتشريعات الداعمة، ومكافحة الفساد)، وهي السلسلة التي ستقوي من الأداء الحكومي والمؤسسي منذ بدايات المئوية، لتؤسس لخط ثابت يضع خارطة طريق بيد العاملين بالإدارة المستقبلية، وخاصة في إدارة الموارد، والطاقة، وتشجيع روح البحث، وتقديم العلماء وتفعيل دورهم في دولة تملك عددا كبيرا من الجامعات والمؤسسات التعليمية، وهذا هو روح النهضة واستمراريتها نصا وروحا الذي نقصده في المئوية القادمة، لأنها مئوية الثورة الثقافية والمعارفية والإدارية وتعظيم العلم وسيادة التقنيات بامتياز، وتقوم على العقل والمنهجية والتفكير الاستثنائي وهو روح العصر القادم.
ونسأل الآن السؤال الكبير، وهو محصلة للدولة المستقبلية والمؤسسات والإدارة، ما هو المجتمع الأردني الذي سيتشكل في المئوية الثانية؟ هل هو امتداد لمجتمع مطلع هذه الألفية ونحن نعيش في مجتمع عالمي شديد التغير؟ ما هي مواصفات المجتمع الأردني في عصر التقنيات الفائقة والهجرات التي تحرك الشعوب والأفراد، والسياسات الدولية والإقليمية التي تطالنا جميعا، شئنا ذلك أم أبينا؟
مجتمعنا الأردني متجذر في تشكيله وغني، وهذا التجذر لا يجعله من المجتمعات المغلقة، فهو مجتمع متنوع ومتعدد ويحترم هذا التنوع، بل إن من مواصفاته المقدرة على التجدد واستيعاب الظروف المفاجئة، فقد تعرض الوطن للعديد من المتغيرات العسكرية والسياسية على الصعيد الإقليمي، وكان للمجتمع الأردني المقدرة المدهشة على استيعاب المتغيرات واحتوائها، وبدلا من أن تشكل له الهجرات الفجائية مشكلة، كانت مقدرته على الاحتواء تثير الإعجاب وتؤكد على الأصالة، بحيث يتجدد النسيج الاجتماعي بصورة صحية وذكية، هذه الحالات التي شهدناها منذ أكثر من سبعين عاما كانت حافزا للتجدد، ولا بد من دراسة اجتماعية تقدم القراءة المتوقعة من الفرد الأردني في العقود القادمة، لمعرفة كيفية تحفيز الفرد على التفاعل مع المتغيرات الاقتصادية والفجوات القائمة بين الفئات، بحيث يكون تحقيق العدالة والمساواة والحرية المسؤولة والواعية المزودة بالمعلومات والمعرفة نقطة الانطلاق في مجتمعات المئوية القادمة، دون النظر إلى المنابت والأصول أو الفوارق، وتعظيم روح المواطنة، وتقديم المصلحة العامة فوق المصالح الشخصية. وهنا ندعو إلى إقامة (مرصد ثقافي في المشرق) تقوم عليه مؤسسات قادرة على الرصد ووضع الخطط والاستراتيجيات لتحقيق الحداثة التي نريد.
وهنا مربط الفرس، فإن التركيز على الفرد وتقديم كل محفزات التعليم والانتقال لتعليم التفكير المنهجي وممارسته لتمكين وتفعيل طاقات الفرد ليصبح فاعلا في الإطار الجمعي، هو معضلة يجب على الجسم التعليمي اجتيازها في المئوية الجديدة التي لا تقبل أن نكرر أنفسنا في عالم فائق التقنيات والحداثة، أقول هذا وأنا على وعي تام بدور التعليم المرئي والمسموع والتقني في حياة البشرية كلها وما أحدثه من ثورات متلاحقة، ولا يجوز لنا أن نستمر في تكرار أنفسنا وتغييب العقل، لأن العالم لا يقبلنا، ولأن لدينا نسبة كبيرة من الشباب في مجتمعنا تفوق كل المجتمعات الأخرى، وعلينا أن نستثمر بعقولهم وأفكارهم مستفيدين من روح العصر، لنواجه التحديات المجتمعية والاقتصادية بما فيها زيادة الفقر والبطالة والفجوة الجندرية. ويقودنا هذا للحديث عن تفعيل دور المرأة حيث تشير الدراسات إلى أن الفجوة الجندرية في العالم العربي عالية مقارنة مع مناطق أخرى من العالم. وعند الحديث عن آثار جائحة كورونا، على سبيل المثال، كانت المرأة من أكثر الفئات تضررا وأُجبرت العديد من النساء على أن يلزمن بيوتهن بسبب الإغلاق العام. ويدعونا ذلك للتركيز على الإجراءات الوقائية الفاعلة والسياسات التي تحقق نتائج اجتماعية واقتصادية تعود عليهن بالنفع وتكفل لهن المساواة والحماية.
أما الاقتصاد ومعضلاته في حياتنا، فإن مواردنا قليلة وهذا صحيح، لكن التحدي يكمن في إدارة هذه الموارد، وفي توظيفها، وتطوير قدرات رأسمالنا الإنساني، فمع أن اليابان مثلا دولة قليلة في مساحتها، لكنها دولة مكتفية في زراعتها ومصدرة بامتياز، لحسن إدارتها لمواردها، ولنا في إندونيسيا وماليزيا نماذج تستحق الدراسة، ولو أحسنا إدارة وتوظيف مساحات أراضينا المترامية في البوادي، واستغلال الأراضي الجافة، وتعزيزها بالنباتات الرعوية لتمكنا من تفادي مشاكل الأعلاف ولأصبحنا من كبار مصدري المواشي واستثمرنا طاقات الشباب العاطلين عن العمل بانتظار الوظيفة. إن إدارة مواردنا هي بيت القصيد والمفتاح في المئوية القادمة، وهذا يُظهر مدى حاجتنا إلى بناء منظومة معلومات وطنية شاملة للخرائط بطبقاتها وفئاتها المدعومة بالمعلومات الإحصائية والبيانية المطلقة توفر مرجعية موثوقة للمُخطِط وصانع القرار الوطني يمكن توظيفها في وضع الخطط الاستراتيجية لإدارة الموارد الوطنية بنجاعة وتساعد في ترتيب الأولويات الوطنية والاستجابة لتطلعات واحتياجات المواطنين بكفاءة وعدالة وتراعي الصالح العام. وعلينا أن نتذكر دائما أن الأردن قلب بلاد الشام، له الحق في أن يتمسك بشعار الوحدة والحرية والحياة الفضلى.
ونحن في هذا الوطن العزيز، عزنا الحقيقي هو في جيشنا العربي، الذي نشأ عربيا وتميز بتاريخه المشرف طوال المئوية الماضية. إن هذا الجيش العربي الذي حمل راية العروبة والنهضة لهو السياج القوي لنا كلنا، وهو الجيش الذي سالت دماء أبنائه الأبرار على ثرى فلسطين الحبيبة حماية للمقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس الشريف، وهي أمانة يحملها الهاشميون.
لقد ترك الهاشميون ومعهم كل الأردنيين بصماتٍ خالدة على حجارة القدس وفي رحابها الطاهرة، ففي 29 أيار 1915م، زار جدي الشريف الحسين بن علي القدس، وصلى بالمسجد الأقصى المبارك، فكانت زيارته هذه إيذانا لحجر الأساس في الوصاية الهاشمية على المقدسات في القدس.
وفي خضم تأسيس الإمارة في عام 1921م، جاءت أول زيارة لجدي الملك المؤسس عبدالله بن الحسين، رحمه الله، إلى المسجد الأقصى المبارك. وفي 4 حزيران 1931م جابت جنازة الشريف الحسين بن علي – رحمه الله – شوارعَ القدس العتيقة، ثم ساحات المسجد الأقصى المبارك، قبل أن يُوارى الثرى في المدرسة الأرغونية الكائنة في الرواق الغربي للمسجد الأقصى المبارك. وقد كانت جنازته مهيبة.
ولا تغيب صورة جدي الملك المؤسس عن الذاكرة حين سابق جنود الجيش العربي في إخماد الحريق الذي اندلع في قبة كنيسة القيامة إثر إصابتها بقذيفة في عام 1947م.
إن التاريخ يستذكر أن الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان، كسا قبة الصخرة المشرفة بلونها الذهبي، ثم كُسيت بالرصاص ألف عام، حتى أعاد لها المغفور له الملك الحسين بن طلال، رحمه الله، بهاءها ورونقها في عامي 1964م و1993م، حين طُليت بالصفائح المذهبة كسابق عهدها.
ونستذكر من التاريخ أيضا، كيف أمر الملك الشهيد نورالدين زنكي بإنشاء منبر للمسجد الأقصى المبارك، وكيف أحضر السلطانُ صلاح الدين الأيوبي المنبر إلى القدس، ثم كيف سعى المغفور له الملك الحسين بن طلال لإعادة بناء المنبر، وكيف أنجز جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين بناء منبر المسجد الأقصى المبارك بالشكل والتصميم الذي كان عليه منبر صلاح الدين، والذي وصفه ابن الأثير في (الكامل في التاريخ) قائلاً: (لم يُعمل مثله في الإسلام).
لقد أكد الأردن، وما زال، التزامه الدائم بالقضية الفلسطينية وإنهاء الاحتلال وحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة في إقامة دولته المستقلة على ترابه الوطني وعاصمتها القدس الشرقية، على خطوط الرابع من حزيران 1967م.
نطلب الرحمة الواسعة لأرواح أهلنا، الذين أسسوا هذا الوطن الغالي بطاقاتهم وأرواحهم وبذلوا في سبيل عزته كل ما يملكون، ونستذكر جهود الملك المؤسس، وجهود المغفور له والدي واضع الدستور وُمشرع التعليم الإلزامي لأبنائنا، ونترحم على روح الملك الباني الحسين بن طلال، أخي الذي أفنى عمره كله في بناء هذا الوطن. كما نشد على يديّ ابن أخي الملك عبدالله الثاني ابن الحسين، الذي يمضي بالأردن بعزم وثبات ورؤية مستشرفة، جوهرها كرامة الإنسان الأردني وهدفها خدمة الأمة.
ونحيي بسلام أرواح كل جنودنا، والراحلين من أبناء هذا الوطن العزيز طوال هذه المئوية التي مرت على بناء الدولة الوطنية، وعلى من فقدناهم في هذه الجائحة غير المسبوقة منذ عام 1917م، ومنهم العاملون في قطاع الصحة المدني والعسكري، وأؤكد ضرورة إعطاء الأهمية والأحقية لمكونات الكرامة الإنسانية.
وأقول أخيرا، ونحن نقف على عتبة هذه المئوية، جعلها الله زمنا آمنا لنا ولوطننا العزيز، فلندخلها بسلام آمنين.
وأختم كلامي بقوله عز وجل «يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ» صدق الله العظيم (سورة الانشقاق: 6)