مرايا – ثلاثة أيام في أقصى جنوب المملكة، ما بين البداوة وسحر الجيولوجيا وعذرية البيئة، بعيداً عن أبسط مظاهر المدنية في طبيعة بكر دون عبث ضمن مسار درب الأردن.
وصلنا مركز زوار المحمية وبعد التسجيل انطلقنا إلى قرية رم بحفاوة استقبال وترحاب صديقنا هناك، وهو من أبناء الوادي العرب الأقحاح، وكان والترتيب معه للدعم اللوجستي على الطريق عند نقاط التخييم المحددة ضمن المسار حسب البرنامج الزمني لكل مرحلة بدقة.
بدأ المسير باتجاه جبل الخزعلي العظيم من عند انتهاء الشارع الإسفلتية عبر كثبان رم الذهبية والتي احتاجت إلى جهدٍ إضافي لاجتيازها بعد ما تم تسليمنا التجهيزات من قبل صديقنا، وقد أبقينا في حقيبة الظهر أربعة لترات ماء وبعض الفواكه المجففة والسكريات والخارطة الإلكترونية للمسار باستخدام الجوال ونسخة احتياطية مطبوعة وبوصلة لأي طارئ وهو ما يلزم على الطريق.
الأبعاد في البادية والصحراء مخادعة لمن لا يعرف كيفية التعامل معها وبالذات في حالة عدم وجود نباتات أو أشجار، فمقياس المسافة كما تعلمنا من أهل المنطقة هو حجم الشجرة أو تسلسل تباعد النبات بنسبة وتناسب إلى حجمه الذي يتم اتخاذه كأبعاد المتر أو المسطرة، لذا استراحتنا الأولى كانت في شرقي الخزعليّ لتكون إلى جانب صخرة تُرك عليها العابرون حروف ألسنتهم السامية وأشكالٍ كانت لما قبل تشكل الحرف واللغة، ومع فنجان قهوتنا وظل الصخرة كنا نتفحص تلك الكتابات متخيلين من قد مر من هنا من قوافل بين الجزيرة وبلاد الشام وأقوامٍ خلّدوا ذكراهم بأبسط الأدوات.
تسلسلت مشاهدات بجبال صقلتها الرياح ببحر جفت مياهه قبل ستمائة مليون عام ضمن الحقبة الجيولوجية للحياة القديمة ونبت بين صدوعها ما جعله الله فيه علاج لكل عابر ومقيم؛ فالعاذر لعلاج المفاصل، والقيصوم للصداع، والجعدة للمسالك البولية، والحصلبان لالتهاب الحلق، والبعثران للمغص، فهنا ستجد صيدليتك وعلاجك بكل مكان وانت طبيب نفسك بالفطرة وليس كل نبات علاج فمنها ما هو سم زعاف.
وصلنا نقطة التخييم الأولى قبل الغروب واخترنا فج بين الجبال، محمي من الريح من معظم الجهات، ونصبنا خيامنا الفردية، وكما أوصينا صديقنا أن يحضر طعام للأيام الثلاثة لنعده على الطريقة البدوية، فأول ليلة أعددنا عشائنا منسف بالجريش وخبز قمح الشراك، وهو ما كان سائد قبل الأرز، أتممنا طبخنا على نار الغضا والرتم الجاف دون اقتلاع أي نبتة حفاظاً على الحقوق الطبيعة والبيئة التي نحن ضيوف عليها. أما بالنسبة للعشاء، فقد كان لذته بعد قطع مسافة خمسة عشرة كيلومتر وذبح الجدي وتقطيعه، لنبدأ ليلتنا بتفحص مواقع النجوم وتسمياتها بتطبيق الموبايل، فليل البادية لا يعادل سكونه وجمال سمائه ليلاً.
لم نترك دهشة الشروق دون فنجان قهوة من على جبل قريب وكيف تحاورت أشعتها مع ذهبية الأرض المعطرة بالندى، مشهد يقل نظيره بكل بلاد المشرق والوطن العربيّ، والفجر وقت الدعاء وشحن طاقة جسدنا ليوم قد خططنا فيه أن نقطع خمسة وعشرين كيلومتر، بعد إفطارنا على معلاق الجدي اللذيذ البلدي المرعى.
حملنا احتياجاتنا من الماء “أربعة ليترات” وعصير وزوادة خفيفة، سالكين الدرب ما بين الغرب والجنوب نحو قرية تيتن المحاذية للحدود الشقيقة السعودية، بين سلسلة من الجبال تتغير أشكالها من اتجاه إلى آخر، لنخرج من الكثبان الذهبية إلى طريق رملي بازلتي وصخري تارة تلو الأخرى، مروراً بعدد من الآبار ومشارب الماشية والإبل، ومن بعدهم سدين تجميع لمياه السيول والتي أقامتهم سلطة إقليم العقبة في الوادي، محددين نقطة الاستراحة الأولى بعد اجتياز سبعة كيلومتر عند الشجرة الوحيدة التي صادفتنا بتلك المسافة، وإقامة صلاة الظهر بجامع الرعيان وهو صف من الحجارة الفردية دون بناء وله محراب نحو القبلة.
أكملنا مسيرنا لاستراحتنا الثانية بمحاذاة “قرية تتن” بعد سبعة كيلومترات أخرى، وما أن شاهدنا طفلين حتى أتونا بنخوة رجال يدعونا للاستراحة ببيوتهم أو إحضار ماء أو ما نحتاج، فهذه هي البادية تصنع كرم الأخلاق والإنسانية دون أي زيف.
كانت شبكة الاتصالات متاحة للاتصال بالقرب من القرية، وهنا ودعنا الشهمين متجهين نحو الجبل سالكين سيق قد اختلف كلياً بصخوره عما كان في وادي رم ولندخل سلسلة جبلية أخرى لنصل قمتها ويفتح علينا الوادي ونشاهد صديقنا البدوي من بعيد ينتظرنا عند نقطة اللقاء للتخييم لليلة الثانية، ودخان قدره قد ارتفع، وبالفعل لم نترك تلك القمة دون متعة التأمل وسحر الجبال وسماء دار بها عقابين شعرا بنا.
أخذنا طريق النزول وأعيننا نتفحص تشكيلاتها الصخرية وألوانها المتعددة والمفاجئة بنبتة شوكية فيها، كحبات العنب لم نشاهد مثلها من قبل، أخذنا لها بعض الصور دون لمسها، للاستفسار عنها من أهل العلم والمعرفة فقد تكون من النوادر التي حظينا بها.
وصلنا صديقنا الطيب المنهمك بإعداد طعام العشاء الدسم زرب بنصف لحم الجدي المتبقي من الأمس، فانشغلنا بنصب خيامنا مرة أخرى وهو العرف السائد بين الرحالة “أخدم نفسك بنفسك”، ومن محاذير التخييم ألا تحرك الحجر خشية وجود عقرب أسفله أو قرب جحر فلا تعلم ما فيه، وما انتهينا حتى كان الطعام جاهز والذي بذل فيه صاحبنا ساعات من العمل، لنخلد لنومنا مبكرين استعداداً للمرحلة الأخيرة الأصعب في الرحلة، بعد وضع ما تبقى من عظام في النار لكيلا تأتي الحيوانات على رائحتها وتعكر صفوة نومنا.
وما بين ساعة السحر والفجر نهضنا حسب الخطة بعد ليلة لامست درجات حرارتها الصفر مئوي من ليالي سعد الذابح الباردة، اشعلنا النار التي لم ينطفىء جمرها واحتسينا الشاي ليعيد الدفء إلينا، حاملين معنا إفطارنا ليكون على القمة الأولى من سلسلة جبال العقبة بعد ثماني كيلومترات من طريق الصعود والمرور بالسد الركامي، وما أن وصلناها حتى كان مشهد قل نظيره بجبال صخورها من كل لون ونوع، حيث لا تقل جمالاً عن جبال محمية البيرو الجرداء ذات الشهرة العالمية بألوانها، فنحن بين صخور قد تشكلت قبل ثمانمائة مليون عام من العصر الكامبري وما قبله، وفي الأفق البحر وجبال سيناء، مشهد لا يشبه أي مشهد، حيث لم تصله المدنية أو تلوث البشرية، فنحن في جنة عشاق الجيولوجيا، متحف الأرض الطبيعي، مقصد الباحثين والدارسين، وأثق أنه لو روّج بالشكل الصحيح لأصبح مقصد مهم في عالم السياحة البيئية ومكوناتها ومقصد الدارسين من منظمات وجمعيات عالمية ومن هم طالبين الخلوة والهدوء، ومصدر إلهام لنوابغ الفن من نحت فضالتهم هنا من صخور البازلت الفريدة، وكل الخامات والألوان، بل حتى هيكل الجمل العظمي الميت على الطريق، لو أُتيح لفنان لعمل منه أيقونة كما فعل الفنان محمد الحواجري بالرسم على العظم كالمجموعة التي عرضت بمعهد العالمي العربي في باريس، وهنا تذكرنا طبيعة القمة الجرداء، جبال الهمالايا، والصحاري المرتفعة، دون نباتات وحجارة غير ثابتة تتدحرج تحت قدميك مع كل خطوة.
ومن ارتفاعٍ لامس الألف متر، عدنا للنزول بعد مسير شائق على سيف الجبل لنسلك درب قديم قد شقّ بين الصخور لبطن الوادي، لنأخذ استراحتنا الثانية ونعود مرة أخرى للصعود في السلسلة الأخيرة المحاذية للخليج عبر سيق صاعد، حيث وصلنا لقمة لا تقل روعة عن سابقها، والاستراحة لم نتركها إلا بفنجان قهوة يرافقه التأمل تارةً ونظرة إلى البحر تارة أخرى وإلى ما خلفنا من سلاسل جبلية، وإلى الأفق البعيد حيث جبال رم وهي نقطة البداية لدينا.
كان مشهد البحر يعيد إلينا العزيمة للوصول إليه والعودة إلى صفر ارتفاع والسباحة فيه بعد مسير بلغ اثنان وستون كيلومتر من الروعة والجمال وحياة البداوة وروح الفريق.