مرايا – قال سماحة مفتي عام المملكة الشيخ عبد الكريم الخصاونة إن الدولة الاردنية تأسست على قواعد قوية ومتينة، حيث حرص الهاشميون على الأسس الدينية التي بنيت عليها الدولة، فكان من أهم المناصب الموجودة منذ تأسيس الإمارة هو منصب المفتي، والذي كان مرافقا لسمو الأمير عبدالله الأول بن الحسين.
وأضاف سماحته في حديث لوكالة الانباء الاردنية (بترا)، أنه وبعد وصول سمو الأمير عبدالله الأول بن الحسين إلى عمان وتأسيسه لإمارة شرق الأردن، صدرت الإرادة الأميرية بتعيين الشيخ عمر لطفي المفتي مفتياً عاماً للديار الأردنية في عام 1921، فكان بذلك أول “مفت عام للأردن” في تاريخه الحديث.
وبين الشيخ الخصاونة أن دائرة الافتاء تأسست في عام 1921، وكانت تعتمد منذ تأسيسها على المذهب الحنفي في الفتوى، الذي كان معمولاً به في أيام العهد العثماني، حيث كان المفتي يُجيب الناس على أسئلتهم سواءً منها ما يتعلق بالعبادات أو المعاملات أو الأحوال الشخصية، وكان يعيّن إلى جانب كل قاضٍ مفتٍ في المدن الكبيرة والصغيرة، ويستعين القاضي بالمفتي لحل المشكلات الاجتماعية، كما أن المفتي يُحيل إلى القاضي الأمور التي لا تدخل تحت اختصاصه مما يحتاج إلى بينات وشهودا، وبقي الإفتاء على هذا الحال، حتى تم تعيين الشيخ حمزة العربي مفتيًا للمملكة سنة 1941 بإرادة سامية.
واشار الى انه في عام 1966، صدر نظام الأوقاف الإسلامية، الذي يشتمل على تنظيم شؤون الإفتاء، وينص على أن المفتي العام يعقد بالاشتراك مع مدير الوعظ والإرشاد اجتماعات دورية للمفتين لتوجيههم وتنظيم أعمالهم؛ وذلك لأن المفتي يرتبط بوزير الأوقاف، ونظرًا لظهور أمور جديدة في حياة المواطنين وتعدد المسائل وكثرة المدارس الفقهية فقد اقتضت المصلحة صدور قرار بتشكيل مجلس للإفتاء برئاسة قاضي القضاة، فكان المجلس يجتمع لبحث المسائل الجديدة، والتي تُحال إلى المفتي من جهة عامة كالوزارات والشركات ونحوها، وأما غيرها من المسائل فكان يجيب عليها مفتي المملكة أو المفتون في المدن والمحافظات.
ومع تطور نظام التنظيم الإداري لوزارة الأوقاف، تم استحداث دائرة للإفتاء عام 1986، لكن بقي المفتي مرتبطًا بوزير الأوقاف، والذي قد يكون في بعض الأحيان ليس من ذوي الدراسات الشرعية، لذا ظل قاضي القضاة يرأس مجلس الإفتاء لأنه لا بد أن يكون مؤهلاً تأهيلاً شرعيًا.
وأشار الخصاونة إلى أنه في عام 2006، صدر قانون يقضي باستقلال دائرة الإفتاء العام عن وزارة الأوقاف وغيرها من الجهات الرسمية، وأصبحت رتبة المفتي تعادل رتبة وزير في الدولة، وذلك برعاية كريمة من جلالة الملك عبدالله الثاني، الذي أكد دعمه الكامل لدائرة الإفتاء، والتي يقع على عاتقها دور أساسي في تبيان الأحكام الشرعية المتصلة بحياة الناس.
واكد سماحته حرص جلالة الملك عبدالله الثاني، على توفير كل المتطلبات التي من شأنها أن تساعد الدائرة على أداء واجباتها بفعالية، إلى جانب دعمه لخطتها الرامية للوصول الى كل لواء ومدينة كبيرة، وتجمع سكاني في المملكة.
ولفت الى أن التوجيهات الهاشمية جاءت من جلالة الملك عبدالله الثاني، لسماحة الدكتور نوح القضاة عند رعايته لافتتاح مبنى الدائرة بقوله، “الإفتاء مستقل، لا سلطان عليكم في دائرة الإفتاء إلا سلطان الدين، فأفتوا الناس بشريعة الله تعالى”.
وبدعم ملكي أنشئ موقع إلكتروني للدائرة؛ لتتمكن من التواصل مع كافة المسلمين داخل وخارج المملكة، ما يدل على أن عناية الهاشميين بالإفتاء عريقة ومستمرة، علاوة على أن آل البيت والعلماء، كانوا يتعاونون على مدى التاريخ الإسلامي في تصحيح مسيرة الأمة الإسلامية لتظل الرسالة ناصعة واضحة المعالم.
وأوضح سماحته أن دائرة الافتاء واكبت التطورات حيث وظفت الاتصالات الحديثة لصالحها، فأنشأت موقعا إلكترونيا خاصا بالدائرة، واستخدمت مواقع التواصل الاجتماعي، وأنشأت قناة خاصة بها عبر موقع اليوتيوب، بالاضافة الى تصميم تطبيق خاص بالإفتاء يناسب جميع الأجهزة الذكية، لتوصل رسالتها بكافة الوسائل المتاحة.
وأكد، دور الفتوى في تعزيز مبدأ الاعتدال والوسطية في الأردن وتميزه بمواقفه تجاه مختلف القضايا ما جعله نموذجا وسطيا معتدلا في المنطقة، مشيرا الى ان دائرة الافتاء تنطلق في منهجيتها في الفتوى من خلال مضامين رسالة عمان، رسالة الوسطية والاعتدال والرحمة، والتيسير على الناس من خلال الاعتماد على أحد أقوال أئمة الفقهاء ومراعاة ظروف المستفتي.
ووفق سماحته فإن دائرة الإفتاء سعت لتكون مرجعية فقهية إسلامية رائدة في صناعة الفتوى والبحث الشرعي، وتقديمها للأفراد والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية، محلياً وإقليمياً وعالمياً، من خلال رسالتها وهي “تبليغ رسالة الله تعالى إلى الناس، وترسيخ مفهوم المرجعية الفقهية الدينية الوسطية في بيان الأحكام الشرعية، والدعوة إلى العمل بها، وذلك بتنظيم وإصدار الفتاوى في الأمور العامة والخاصة، والاهتمام بالموسوعات الفقهية والمخطوطات الإسلامية وإعداد الدراسات والبحوث الشرعية، والتأسيس للاجتهاد الجماعي بالتواصل مع علماء العالم الإسلامي، مستفيدين من تقنيات ووسائل الاتصال والتواصل الحديثة”.
وفي اطار الانجازات لدائرة الافتاء، قال الشيخ الخصاونة، إن الدائرة حققت المركز الأول عربيا والثاني عالمياً في إصدار الفتاوى الشرعية العام الماضي، وفقا لمجلة جسور الصادرة عن الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، مشيرا الى انها اصدرت ما يزيد على 12500 فتوى شرعية، العام الماضي، سيما أيام الحظر التي رافقت الإجراءات الاحترازية لمواجهة وباء كورونا، واتسمت هذه الفتاوى بالشمول ومواكبة الأحداث والمجالات الإفتائية.
وأضاف، إن الدائرة حصلت على عدة جوائز من أبرزها المركز الاول بجائرة الملك عبدالله الثاني لتميز الأداء الحكومي والشفافية، ضمن فئة المؤسسات المشاركة لأول مرة، لعام 2018، فضلا عن حصول الموقع الإلكتروني للدائرة على الجائزة الذهبية (المركز الأول) لأفضل موقع إلكتروني حكومي في المملكة لعام 2009، ودرع الحكومة الإلكترونية العربية لعام 2011، ودرع الحكومة الذكية العربية لعام 2016، وجائزة الألكسو للتطبيقات الجوالة في مجال التربية لعام 2016.
وفيما يخص أبرز الفتاوى التي تناولتها الدائرة خلال جائحة كورونا، بين سماحته أنها تعلقت بالعبادات، وضرورة الالتزام بالتعليمات الصحية، وصلاة الجمعة، وصلاة التراويح وكيفية أدائها في المنزل، وكيفية صلاة عيد الفطر، مشيرا الى دور الدائرة في نشر الطمأنينة والسلم المجتمعي، والوعي والتكافل بين الناس والتعاون على البر والتقوى، والمحافظة على أحكام الإسلام وشعائره الدينية مع أخذ الحيطة والحذر في ظل الجائحة والحد من انتشار الوباء.
وحول دور الفتوى في مواجهة وحل المشاكل والامور المستحدثة ومواكبتها، قال: إن الدائرة اختارت أن تعتمد واحداً من المذاهب الفقهية الأربعة، منطلقاً وأساساً للاختيارات الفقهية المفتى بها، كي يتحقق من خلال هذا الاعتماد ما حققته الحركة الفقهية عبر التاريخ الإسلامي كله من فوائد ومصالح عظيمة.
ومن هذه المصالح، السلامة بين يدي الله عز وجل في موقف الحساب العظيم، فلا تبديل ولا تغيير في دين الله ما لم يأذن به سبحانه، وتحقيق الوسطية وهي من قواعد الشريعة الإسلامية، والسلامة من الأقوال المضطربة والآراء الشاذة التي تسبب الخلل في الحياة الفكرية والعملية، وتحقيق انضباط الفتوى وتقليل الخلاف -غير النافع- ما أمكن، بالاضافة الى التسهيل على المفتين بمعرفة الأحكام الشرعية، من خلال الأخذ عن الفقهاء السابقين.
وأوضح أن سبب اختيار دائرة الإفتاء لمذهب الإمام الشافعي أساساً ومنطلقاً للفتوى، وذلك لسببين: أنه الأكثر انتشاراً في بلادنا عبر التاريخ حيث أن مراعاة الغالب مقصد شرعي، وبسبب أنه مذهب وسطي جمع بين أصول مدرستي الحديث والرأي، وخرج باجتهادات فقهية كانت وما زالت سبباً في تحقيق مصالح الأمة وجمع كلمتها، وهذا السبب وإن كان متحققاً في المذاهب الفقهية الأخرى- إلا أن مذهب الإمام الشافعي حاز قصب السبق فيه.
وأكد ان التزام دائرة الإفتاء بالفتوى على مذهب الإمام الشافعي لا يعني التقليد التام لاجتهادات فقهاء المذهب، بل للدائرة رؤية متقدمة في طريقة الاستفادة من جميع مفردات المذاهب الفقهية ضمن المعطيات الآتية: إذا كان اجتهاد المذهب الشافعي في مسألة معينة لا يناسب تغير الزمان والمكان والظروف المحيطة بسؤال المستفتي، كأن يؤدي إلى حرج شديد، أو مشقة بالغة، أو اختلفت العلة التي من أجلها نص فقهاء الشافعية على ذلك الاجتهاد، أو استجد من المعلومات والحقائق العلمية ما يدعو إلى إعادة البحث في الاختيار الفقهي: ففي جميع هذه الحالات تقوم دائرة الإفتاء بإعادة دراسة المسألة في ضوء القواعد الفقهية والمقاصد الشرعية، وتستفيد من اجتهادات جميع المذاهب الإسلامية للوصول إلى الحكم الشرعي الأقرب إلى مقاصد الشريعة.
وحول قضايا الأحوال الشخصية، كالنكاح والطلاق والحضانة والميراث، بين الخصاونة، أن الدائرة تعتمد في الفتوى، قانون الأحوال الشخصية الأردني، ولا تخرج عنه، وذلك حتى لا يحدث تضارب بين الإفتاء، والقضاء الشرعي في المملكة، لافتا إلى أن القانون مستمد من اجتهادات وأقوال فقهاء المسلمين، تم اختيارها وفق أسس وضوابط شرعية، من قبل لجان مختصة.
ونوه الى ان دور دائرة الافتاء لا يقتصرعلى إصدار الفتاوى فحسب، بل يتعدى ذلك إلى الإصلاح وخاصة في قضايا النزاع المالي والخلافات الزوجية، والأسرية، والوصول إلى حل رضائي بين الطرفين، إلى جانب تقديم النصح والإرشاد للزوجين للوصول إلى بر الأمان، حتى لا تنعكس الخلافات على سلوك الأولاد وحمايتهم من الضغوطات الأسرية أو الانحراف وبذلك تكون الدائرة أظهرت الحكم الفقهي في مسألة الطلاق بحسب قانون الأحوال الشخصية، وأدت رسالتها في الإصلاح الأسري ونشرت الوعي الثقافي الديني للحفاظ على الأسرة متماسكة فيما بينها.
وتحدث سماحته عن آلية تعامل أصحاب الفضيلة المفتون مع المسائل الواردة إليهم من الجمهور عبر وسائل الاتصال المتنوعة، ضمن سلسلة متدرجة وآلية متقنة، حيث تبدأ بتحديد نوع المسألة الواردة من الأنواع السابقة، وتنتهي بوصول الجواب إلى السائل في أسرع وقت ممكن، وإن وقع التأخير فإنما يقع بسبب الدراسة المفصلة التي تقوم بها الدائرة لعشرات المسائل يومياً، وإذا علم المفتي أنه مسؤول بين يدي الله عز وجل عن كل كلمة يكتبها فإنه -ولا شك- سيؤثر التأني والتمهل على العجلة والترجُّل.
وفيما يخص المسائل التي تتعلق بنازلة جديدة من نوازل العصر غير منصوص عليها في اجتهادات الفقهاء، أو كانت من المسائل العامة التي تتعلق بالمجتمع كله أو الأمة كلها، سواء في مسائل المعاملات المالية أو النوازل الطبية أو غيرها، فلا بد للدائرة حينئذ من إعداد أبحاث خاصة لدراسة المسألة في ضوء الأدلة الشرعية والقواعد الفقهية والموازنة بين المصالح والمفاسد، تخلص من خلالها إلى حكم شرعي يعرض على (مجلس الإفتاء) للبحث والتداول، ثم الوصول إلى قرار خاص بشأن تلك المسألة.
وتناول سماحته في حديثه، دور الإفتاء في محاربة التنظيمات الإرهابية والتشدد، واظهار وسطية الإسلام، حيث أصدرت فتاوى متعددة ترد فيها على المتشددين الذين يبدعون ويكفرون الناس، بالرد بطريقة فكرية علمية، إلى جانب جهودها في مواجهة التطرف والتكفير والإرهاب، من خلال مجموعة من الفتاوى والمقالات والمؤتمرات والبيانات والأبحاث والمنشورات والمطويات والبرامج التلفزيونية، التي تحقق نشر الوعي المجتمعي، وحث الناس على الابتعاد عن الغلو والتطرف، بالدعوة إلى الإسلام بصورته الناصعة، والذي يدعو إلى حقن الدماء وحب الأوطان، وعمارة الكون، وتكوين الإنسان الحضاري.
ونحن على اعتاب المئوية الثانية للدولة الاردنية، أشار سماحته إلى أن العالم شهد في المئة عام الماضية، تطورات في كافة المجالات، ولن يقف العالم عند هذه التطورات، والافتاء قادرة على مواكبة هذه المستجدات واغتنامها، لتحقيق هدفها ونشر رسالتها، وما حظيت به من رعاية هاشمية خاصة، وصلت بها أعلى درجات التميز فهي تطمح بأن تصل رسالة الإسلام السمحة إلى كل العالم، من خلال سعيها لترجمة الفتاوى إلى عدة لغات، غير اللغتين العربية والانجليزية، وذلك لإيصال رسالة الإسلام الصحيحة لكافة العالم.
كما تسعى دائرة الإفتاء من زيادة عدد مكاتبها على مستوى كافة الألوية في المملكة الى تسهيل وتقريب الفتوى على المواطنين، وتطمح لإنشاء محطة إذاعية خاصة بها لبث برامجها من خلالها، وعمل محطات فتوى إلكترونية مباشرة من خلال ما يستجد من وسائل تواصل بعدة لغات لتسهيل الفتوى لجميع المسلمين في كافة أقطار العالم.