أكثر من ثلاثة آلاف شهيد اردني طرزوا بدمائهم الزكية وبفوهات البنادق ثوب النصر الخالد، وصنعوا بتضحياتهم العظيمة قصة السيادة والاستقلال.

فعلى مدى عمر الدولة الاردنية العابق بالمجد، المسيج بشموخ هامات الجيش العربي المصطفوي، خاض الجيش معارك الشرف للدفاع عن الارض والانسان والحق والعدل، باحترافية عالية، وبقيم واخلاق سامية، نهلت من مدرسة الهاشميين في التوق للسلام والنهضة والحرية.

وتفخر المملكة الاردنية الهاشمية وهي على عتبة المئوية الثانية انها قدمت الشهيد تلو الشهيد، ممن زكّت دماؤهم العروبية تراب الزيتون والدحنون والياسمين والنخيل، وبعد أن يسكت الرصاص، ويُقضى الامر، تختلط دموع الامهات بزغاريد النصر والشموخ، ليبقى الوطن آمنا مستقرا مطمئنا عالي الجبين، مستمرا في نهضته وانجازاته، معززا بنهج وقيم السلام والديمقراطية والحكم الرشيد.

سياسيون ومتقاعدون عسكريون ومؤرخون، ممن تشرفوا بحمل شعار الجيش الغالي، يؤكدون لوكالة الانباء الاردنية (بترا)، ان الشهادة فداء للوطن، واجب ونداء، وان الاردني مجبول بثوابت الولاء والانتماء، واثق من النصر في كل الميادين، طالما ان الشهامة والرجولة والايثار والإقدام من شيم الجيش الاردني الباسل، حامي الحمى والثغور.

ويلفتوا الى ان استذكار بعض اسماء وبطولات شهداء الاردن، ممن تعانقوا واسوار القدس، وامتزجت دماؤهم بتراب الارض العربية، لا يعطيهم حقهم ابدا، وان عرّجوا على بعضها، فهذا ليس تفضيلا لأحد على آخر، فجميعهم اكرم بني البشر، لهم المجد والخلود، ترسم دماؤهم حدود الوطن، حين يحملون ارواحهم على اكفّهم، بكل اقدام وجسارة وجرأة.

الشهادة والأردني توأمان منذ الثورة العربية الكبرى.

الكاتب والمؤرخ بكر خازر المجالي يتحدث عما يراه “سيمفونية” الشهيد ومجده وتضحياته، حيث سطر بواسل الجيش العربي البطولة بفوهات البنادق وزينوها بلون الشماغ، وطرّزوها بأسنة الرماح، فكانوا الخيل والسيف والرسالة والمستقبل، فالأردن والشهادة توأمان منذ كان الاردني جنديا في الثورة العربية الكبرى، فخاض المعارك الحاسمة وحقق النصر فيها، في العقبة ومعان والطفيلة والشوبك ووادي موسى والحسا والقطرانة، وفي المدورة الى الجفر وباير، وصولا الى الأزرق.

ويزيد، وليس غريبا ان نعرف، ووفقا للسجل الرسمي لشهداء الجيش الاردني، ان اول شهيدين من جيشنا العربي، استشهدا على ارض سورية، وهما: الشهيد الجندي مفلح حسن الداس، والذي استشهد في 10 آب 1938، والشهيد الجندي احمد مفلح السحيم بني صخر، الذي نال الشهادة في 27 حزيران 1941.

ويلفت المجالي الى ان الاردن قدم اكثر من ثلاثة آلاف شهيد خاضوا حروب الدفاع عن امة العرب وارض القداسة، فتخضبت ارض باب الواد واللطرون بدماء الشهداء في فلسطين المحتلة عام 1948، حيث صنع الجند من أجسادهم سدا لمنع الاختراق المعادي، وتعانق الرجال مع أسوار القدس وبواباتها، امتطوها وهم يتوقون لنصر أو شهادة، فكتبت لهم الحُسنيان “النصر والشهادة”، لافتا الى ان 328 شهيدا نالوا الشهادة على الثرى الفلسطيني، وكان المثنى اليماني ابن معان اول الشهداء في هذه الحرب.

وينوه المجالي الى انه وبعد عام 1948 وحتى عام 1966 لم تخل سنة من الاستشهاد، وبسبب العدوان الثلاثي على مصر الشقيقة عام 1956، كان الجيش العربي الاردني جزءا من المعركة ، لأن العدو خشي ان يفتح الاردن جبهته ضده، واستمر بالاشتباك مع جيشنا، حيث قدم خلال هذه الفترة 106 شهداء، كأكبر حصيلة على مدى سنوات ما بعد حرب فلسطين عام 1948.

ولا ننسى، كما يتابع، ان الجيش الاردني هب للدفاع عن استقلال دولة الكويت الشقيقة عام 1961، إذ تحركت قواتنا حينذاك، ورابطت الى جانب الجيش الكويتي على ارضه.

ويشير الى استمرار التضحيات، قائلا: ففي السموع وفي 13 تشرين الثاني من عام 1966، ارتقى 13 شهيدا، اولهم مساعد قائد السرية الشهيد النقيب محمد ضيف الله الهباهبة.

كما نستذكر بكل شهامة الشهيد الجندي عطالله علي متروك العودات ابن الطفيلة الذي قتل قائد الحملة الاسرائيلية اللواء المظلي “يوهاف” في احد شوارع السموع قبل ان يرتقي شهيدا”، وفقا للمجالي.

ويواصل المجالي استذكار تضحيات الجيش الاردني الباسل، حيث يشير الى المعركة الدامية التي خاضها في حزيران 1967 من منطلق الواجب القومي والعروبي، معلقا: تلك المعركة التي فرضت علينا، وكلفتنا فقدان ارض الضفة الغربية، وقدمنا خلالها 589 شهيدا، خاضوا معارك قاسية في الشيخ جراح والقدس ورام الله وقباطية، واستشهد حينذاك الطيار فراس العجلوني الذي كان يستعد لتنفيذ غارته الثانية على العدو.

ويستطرد: “لأن عقيدة الجيش الاردني ثابتة لا تتغير، كان يوم النصر المبين في كرامة آذار 1968 ليشق الجند عنان السماء، ويرسلون وهج الانتصار يشع في سماء العرب، فتلمع أسنة الرماح من جديد كرامة وعزة، هو جيش ما عرف إلا البطولة والفخر والمجد دربا، مقدما 87 شهيدا، لكل منهم قصة بطولية، اذ تلاقت بطولات عارف الشخشير وراتب البطاينة واشتيان الصرايرة وخضر شكري يعقوب مع كل الابطال، فصنعوا النصر المبين ضد غطرسة العدو، واعادوا للعرب الكرامة والثقة والعنفوان”.

وفي واجبه لفرض الامن والاستقرار في الوطن، وللحفاظ على السيادة، يشير المجالي الى ان الجيش الاردني قدم 894 شهيدا من عام 1969 وحتى عام 1972، متابعا: وهو كذلك جيش العرب، فخاض غمار حرب رمضان 1973في ارض الجولان، وقدم 23 شهيدا، وكان البطل النقيب فريد احمد الشيشاني نموذجا متفردا في الشجاعة والبطولة.

ويذكر المؤرخ المجالي، ان جيشنا رابط في عام 1975 في جبل ظفار في سلطنة عمان دفاعا عن الشرعية الدستورية وضد موجات من الارهاب والتطرف، وفقد الاردن ستة شهداء في عمليات مختلفة هناك، لافتا الى ان الدم الاردني اختلط بأرض العرب، وفي فلسطين، حيث نزور أضرحتهم في جنين ونابلس، وفي ضواحي القدس وباب الواد، وفي اليامون وبدو، وفي القدس ورام الله والبيرة وقلقيلية، كما خاض الجيش وما زال، معارك السلام والإنسانية بكفاءة المقاتل في كل أرجاء العالم، وهو الحارس في مناطق النزاع الخطيرة، وهو المراقب اليقظ، وهو من يقدم الغوث والاستشفاء في مناطق التوتر.

ويقول المجالي، حيثما كانت مهمات السلام العالمية، كان جيشنا في الطليعة، اذ انتشرت قواته في ثلاثين بلدا في العالم، مقدما التضحيات مرة جديدة، حيث اقترب عدد الشهداء من 40 شهيدا، ممن نالوا الشهادة، وهم ينقذون ويدافعون ويتصدون لكل ما يهدد السكان في تلك البلدان.

ويعرج على فترة قريبة من يومنا هذا، حيث مشيرا الى دور الجيش البطولي في معركة التصدي للإرهاب والعنف والتطرف في العالم، إذ قدم مجددا الشهداء، وفي طليعتهم الشهيد الطيار معاذ الكساسبة، والشهيد الملازم راشد الزيود، والشهيد الرائد سائد المعايطة، وكوكبة من الشهداء في الركبان ومخابرات البقعة وقلعة الكرك والفحيص والسلط وغيرهم، لافتا الى ان الابطال امثالهم يستشهدون ليعيش الوطن بأمان ورفاه.

نذر الشهداء أرواحهم ليبقى الوطن.

يقول العين توفيق الحلالمة: تجمع مئوية الدولة الأردنية، من الحقائق اجملها ومن الذكريات أبهاها، اذ نعيش المسيرة الغالية، ونحن نقلب صفحات سفر تاريخها الخالد، لمئة عام مضت رغم المحن والصعوبات والخطوب.

ويضيف، مئة عام خلت، تزدان بصور الإنجاز، تعمق في نفوسنا ثوابت الولاء والانتماء للوطن وقيادته الهاشمية المظفرة، فهي الدافع والمحفز لمزيد من العطاء، والمسوغ لمضاعفة الجهد، مشيرا الى ان الاردن يحتضن بين جنباته أروع صور البطولة لإنسانه المبدع، المبتكر، الشجاع، الذي سجل النصر في مختلف الميادين.

ويستطرد الحلالمة، الذي كان شغل منصب وزير الداخلية: واكبت القوات المسلحة الأردنية الباسلة والأجهزة الأمنية، مسيرة الأردن الخالدة، وتنسم بعض من فيها عبق الشهادة والتضحية “لرجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه”، ليضربوا أروع صور التضحية، حين حملوا على هاماتهم شعار الصبر والصمود والإرادة الحرة، وخضبوا بزاكي الدماء ثرى الوطن الطهور، وسيجوا بالمنعة حدوده، فطاب الموت في عيونهم، في سبيل ان تبقى رايته خفاقة عالية.

“ومن صفحات التاريخ نقرأ وبكل فخر واعتزاز وكمثال على التضحية والرجولة، قصة مجموعة العربات المدرعة التي كان يقودها شاب بدوي اسمه (حمدان البلوي) الذي تقدم بثبات في موقع معركة البرج عام 1948 على رأس قواته التي كان يقودها فأصيبت سيارته ودمرت تماما، وأصيب هو بجروح غائرة، وبقي يحارب حتى انهكته جراحه، فنقل للمستشفى، وحينها تم استخراج اكثر من مائة شظية معدنية من جسده، وفاضت روحه لباريها، وبقيت صورة البطل في اذهان الناس لتكون عنوانا للشهامة والكبرياء والتضحية والرجولة”.

ويتابع: وفي اللطرون وباب الواد، وفي معركة السموع حين اندفع الشهيد الطيار موفق السلطي ورفاقه، بعزيمة وايمان وكفاءة قتالية عالية، دون أي اكتراث، بالتفوق التقني للعدو، ونرى كذلك، في الرائد الشهيد محمد ضيف الله الهباهبة، اروع صور الصمود والتصدي، ولا ننسى تلك الرسالة التي أرسلها الشهيد البطل الملازم خضر شكري يعقوب، حين حاصره العدو في معركة الكرامة الخالدة، في موقعه لينذر زملاءه بصوت الواثق المنتصر الشجاع: ” الهدف موقعي، إرم إرم، انتهى”، وحقق الشهادة هو وجماعته في سبيل الله، وغيرهم الكثير الكثير، من مقاتلين مدافعين عن الثرى الاردني الغالي، حتى الرمق الاخير.

ويواصل الحلالمة، وهو من تشرف بتأسيس وقيادة قوات الدرك عام 2008، قوله: “نعم انهم الذين نذروا أنفسهم وارخصوا الدماء من أجل رضا الله أولا، والمحافظة على كل معاني الشهامة والتضحية، ليبقى أردن الكرامة والكبرياء والسلام، مسيرة خالدة، تروي قصص البطولة لأشاوس بهامات عالية”.

ويختم الحلالمة بالقول، “سلام على ثراك الطهور، وعلى إنسانك الذي اعلى البنيان، وأرسى القواعد المتينة، التي لا ينال منها الجبناء، سلام على لطرونك، وكرامتك، وباب واديك، سلام على الطاهرين الانقياء الاخيار، الذين أدركوا ان الانتماء للوطن بمقدار ما تعطي لا بمقدار ما تأخذ، سائلا المولى ان يحمي الوطن ويديم عليه أمنه واستقراره، في ظل القائد جلالة الملك عبدالله الثاني، وولي عهده الأمين”.

الجيش الاردني قدم الشهداء دفاعا عن ارض العروبة.

من جهته يقول مدير التوجيه المعنوي الاسبق، اللواء المتقاعد عودة شديفات: منذ أن بدأت الدولة الأردنية مسيرتها المباركة، ومنذ تأسيس الإمارة، كانت وما زالت دولة دستور وقانون ونظام ومؤسسات، وتُقدم على اي اعتبار امن الوطن والمواطن انطلاقا من نهج القيادة ومؤسساتها، وفي مقدمتها القوات المسلحة – الجيش العربي، والأجهزة الأمنية.

ومن أجل هذا الهدف السامي، يتابع شديفات: قدم الجيش الاردني الباسل الدماء الطاهرة الزكية في كل المواقع والمواقف والأوقات، حيث صنع بولائه وانتمائه واخلاصه وشجاعته النصر تلو النصر، محافظا على قيم الولاء والانتماء، وعلى هوية الوطن، حرة، مستقلة، وعلى إرث الرسالة المحمدية، ورسالة بني هاشم الأخيار الأطهار، التي تقدم شأن كرامة الاردني على سلم اولوياتها.

ويلفت شديفات الى ان الجيش العربي، و‏انسجاما مع رسالة الدولة الأردنية وأهدافها وغاياتها، أدى دوره المشرف دفاعا عن أرض العروبة في فلسطين المحتلة، في معارك سجلها التاريخ بأحرف من نور، وعطرها بدم الشهداء الأبرار، ببطولة وايثار وتضحية، وهم يرددون شعار “المنية ولا الدنية”، ويطلبون الشهادة بكل شجاعة.

ويزيد: ‏الجيش العربي هو من جند الحشد والرباط على أسوار القدس واللطرون وباب الواد وتلة الدخيرة، حيث تعالى تكبيرهم بصوت الحق فوق جبل المكبر، وما زالت سهول وهضاب وأودية وقرى وزيتون فلسطين المحتلة، تضم رفاتهم الطاهر، مثلما تحوم ارواحهم في رحاب القدس الشريف، ولهم في أرض العرب صولات وجولات، وهم رجال كرامة الأرض، لقنوا ‏العدو دروسا لا تنسى، وهم يقهرون الصلف والغرور والغطرسة، وكذلك حضروا في الجولان السوري المحتل، بكل شموخ يدافعون عن ارضها.

‏ “لقد تأسس الجيش الاردني الباسل على مبادئ سامية وكان السند القوي للدولة في شتى المجالات، ومنها التنمية الشاملة، الصحة، التعليم، ومختلف شؤون الحياة الاجتماعية، وقد حظي برعاية مباركة من قيادته الهاشمية منذ وصف مؤسس المملكة جلالة المغفور له بإذن الله الملك عبدالله الأول بن الحسين، طيب الله ثراه، الجيش، بأنه بقية الجيش المصطفوي”، وفقا لشديفات.

وينوه الى ان الجيش الاردني، حظى كذلك بالاهتمام الذي يليق به، عندما خلصه جلالة المغفور له بإذن الله، الملك الحسين بن طلال، طيب الله ثراه، من القيادة الأجنبية، وأصدر قراره التاريخي بتعريب قيادته عام 1956، فكانت خطوة مباركة في مسيرة تطويره وتحديثه، ليتمكن من أداء دوره المشرف، سواء في مواجهة الأعداء في شتى الحروب، أو في مقارعة الإرهاب بكل أشكاله، والإسهام الكبير والمشرف في قوات حفظ السلام والأمن في بقاع شتى من هذا العالم.

ويؤكد شديفات، ان الجيش حقق وما زال يحقق معاني رسالته السامية ودوره الإنساني محليا واقليميا ودوليا، وهو الذي قدم خيرة القادة والمدربين والخبراء الذين اسهموا في بناء جيوش بلدان كثيرة، سيما في محيطنا العربي، كما وأرسى قواعد ثابتة بمعاني الجندية ونواميسها.

ويعرج شديفات على الدور الانساني للجيش الاردني قائلا: كلما اشتدت الخطوب، كان الجيش حاضرا، ‏ينشر الأمن والطمأنينة في النفوس، ويضمد الجراح، إذ قدم دروسا عز نظيرها في تعامله الإنساني مع موجات اللجوء، وهو يجير المظلوم. كما واصل مسيرته الخالدة، فقدم الشهداء في بقاع شتى من العالم، حفظا لكرامة الإنسان، دون الالتفات لدينه ‏أو لونه أو عرقه.

وترحم شديفات على شهداء الوطن، متمنيا دوام عز الاردن، ونصر جنده، واستدامة أمنه، في ظل جلالة الملك، وقيادته الحكيمة.

(بترا – اخلاص القاضي)