للسنة الثانية على التوالي، نعيش أجواء شهر رمضان المبارك في ظل جائحة كورونا، وسط مطالبات بإيقاف صافرة الإنذار بدخول الحظر الجزئي المتزامنة مع وقت الغروب والاستعاضة عنها بمدفع الإفطار الرمضاني الذي ارتبط بالذاكرة الجمعية بالأجواء الروحانية للشهر الكريم، وأيضا لتحسين المزاج العام.
ويؤكد عمّانيون أن انتظار مدفع الإفطار في اللحظات الأخيرة من الصيام يشكل بالنسبة لكل واحد منهم ذاكرة لا تنمحي، مشيرين الى أنه مع هذه اللحظات المقترنة بالعد التنازلي للمدفع تتداعى حكايات وذكريات الطفولة والأسرة قبل عشرات السنين، وسباق اللحظات الأخيرة مع “الصحن الدوار” بين الجيران في الحي الواحد.
إنه “ثقافة مرتبطة بروحانية أيام مفعمة بالتغني بآيات الله كانت تنساب من أثير الإذاعات حتى مع ساعات ما قبل السحور وبعده يفصل بينها صوت المدفع إيذانا بالإمساك عن الطعام وبدء صوم يوم جديد من أيام الشهر”، كما يقول هؤلاء المواطنون المشتاقون لسماع هذا الدويّ المحبب.
عيسى الحياري، موظف قطاع عام، يعتبر مدفع رمضان “إرثا ثقافيا يشيع صوته بهجة ايمانية في النفوس”، داعياً الى ترسيخ هذه الثقافة المتأصلة في النفوس والمرتبطة بالشهر الفضيل.
فيما ترى أستاذة علم النفس التربوي في جامعة البلقاء التطبيقية الدكتورة إيمان البوريني، ان فكرة عودة صوت مدفع الإفطار تدغدغ المشاعر، مستعيدة ذكريات الطفولة في مدينة الزرقاء، “حين كان الناس يعتلون اسطح منازلهم لسماع صوت المدفع بشكل أوضح. تقول “انها اللحظات الفاصلة بين صوم ساعات يوم كامل ولحظة الفرح الايماني بالإفطار”.
واعتبرت، أن صوت المدفع يرسخ ثقافة تعيد الأمل والفرج بعد الصبر، كما هو حال الأصوات في الطقوس الدينية الأخرى مثل أجراس الكنائس التي تشيع نغمات ارتبطت حصرياً بالمكان والزمان الايماني.
الأخصائي النفسي مالك الشامي، يؤكد أن صافرة الإنذار التي تنطلق في وقت قريب من وقت الإفطار هي على النقيض تماماً من صوت مدفع الإفطار، موضحاً، أن صافرة الإنذار ارتبطت بالذاكرة بحالات الطوارئ وصوتها يثير الخوف والهلع والتوتر، بعكس مدفع الإفطار الذي ارتبط بذاكرة المؤمنين بالفرحة الأولى من الصيام وهي لحظة الإفطار اليومي.
الشامي يعرب عن أمله في تأخير ساعة الحظر الجزئي لتكون مع موعد الإفطار والاستعاضة عن صافرة الإنذار بمدفع الإفطار كي نشيع الأمل في نفوس الناس.
ويربط أستاذ التاريخ في جامعة اليرموك الدكتور أحمد محمد الجوارنة، بين مدفع رمضان والتاريخ الوطني بالقول، إنّ أول إطلاق لمدفع رمضان في الأردن يعود الى بواكير تأسيس إمارة شرق الأردن، وبمباركة من المغفور له بأذن الله، الملك المؤسس عبدالله بن الحسين، طيب الله ثراه.
وأشار إلى أن الوثائق المتعلقة بمدفع رمضان، ليست كافية، إذ لا نجد الا القليل منها، ذلك أن أقدم وثيقة بخصوص ذلك، تعود الى تشرين الاول من عام 1938 في دائرة المكتبة الوطنية، وفيها يخاطب رئيس بلدية مدينة عمّان، رئيس الوزراء آنذاك توفيق ابو الهدى، تحت عنوان “طلقات مدفع شهر رمضان”، يطلب منه إصدار أوامره الى قائد الجيش حينذاك، لتزويد مدفع رمضان العائد “لبلدية عمان”، بالملابس البالية، بغية استخدامها في عملية حشو المدفع.
وتابع الجوارنة، هناك رسالة مؤرخة في 16 أيار من عام 1953، بعثها متصرف لواء الكرك الى رئيس بلديتها في ذلك الحين، يبلغه بموافقة وزير الداخلية على صرف المواد المتفجرة المطلوبة لاستخدامها في إطلاق مدفع رمضان، وصرف مبلغ 23 دينارا لشراء ملح البارود للغاية ذاتها. أما في إربد، والقول للجوارنة، فإن مدفع المدينة كان ينبّه أهلها والقرى المحيطة بانتهاء يوم الصوم، لكن لا توجد وثيقة تؤرخ لذلك.
ولفت الجوارنة إلى أنه تم العثور على وثيقتين تعودان لقضاء الكورة التابع لإربد تعودان لعام 1959، في الأولى يوجه قائم مقام قضاء الكورة رئيس بلدية دير أبي سعيد، لرصد مبلغ كاف من المال في موازنة البلدية لشراء مدفع لاستخدامه في الشهر المبارك، وفي الثانية يرد رئيس البلدية على القائم مقام يخبره بشراء المدفع.
وبيّن، أنه لا توجد ذاكرة وثائقية لمدفع رمضان في مناطق اربد، باستثناء بعض المقالات، والتي توضح أن أبو علي شاهين، كان من المشرفين على إعداد وإطلاق “مدفع رمضان” في المدينة، حيث كان يقود دراجته من منزله متوجها إلى تل اربد على مقربة من مبنى السرايا، ويترجل عن تلك الدراجة حاملا معه الحقيبة الخاصة بالمدفع، وفيها ملح البارود وفتيلة التفجير والقماش البالي الذي يدكه في “سبطانة” المدفع، وكان الموقع مشرفا على القصبة وعلى بقية القرى البعيدة.
ويواصل الجوارنة روايته لقصة المدفع في بعض المحافظات الأردنية، معرجا على السلط، حيث “ارتبطت ذاكرة سكانها بمدفع رمضان ارتباطا روحيا، وشكل لأهلها تراثا وتاريخا يحكي ذكريات الشهر الكريم سنة بعد سنة، لكن لا توجد وثائق تتحدث عن تاريخ العمل بمدفع رمضان في المدينة”، مختتما حديثه بالإشارة الى أن هناك بعض المعلومات الشحيحة التي تتحدث عن مدفع لرمضان، يسمى بـ “مدفع وادي شعيب”، وهو صناعة ألمانية، استخدمته المانيا خلال الحرب العالمية الثانية، يقدر وزنه بحوالي 11 طنا وطوله 11 مترا.
وكانت أمانة عمان الكبرى قررت أطلاق مدفع رمضان من ساحة النخيل في عمان طيلة أيام الشهر الفضيل، بالتعاون مع القوات المسلحة، إحياء لهذا الموروث واستحضارا لذاكرة المدينة.