د. مهند العزة
لم يلمس فلسطينيو الضفة والقطاع ولا المهجرون في الشتات الفوائد والعوائد المزعومة لاتفاقية أوسلو التي حققت حلم قيادات حركة فتح بإقامة كيان -لا يشبه الدولة في شيء- على بضع كيلومترات من أراضي فلسطين المحتلة مقطّعة الأوصال، ليشبعوا من خلاله شبقهم السلطوي وشهوتهم الجامحة للحكم والتحكم بالفلسطينين الذين وجدوا أنفسهم أمام واقع اختطفت فيه أحلامهم ونضالاتهم وتمتهن كرامتهم وتنتهك حقوقهم على يد الأخوة الأعداء وكلاء اللإستبداد والإطهاد؛ السلطة “الوطنية” ومن بعدها حماس، لتتفرغ إسرائيل بعد أن تخففت من عبء الإشراف على مدن الضفة والقطاع لسرقة ما تبقى من الأرض الفلسطينية وتحطم أمل المهجرين بالعودة إلى مدنهم وقراهم التي لم تفارق صورها أعين الأجداد الذين هجّروا منها ولا وجدان أبنائهم وأحفادهم ممن تربوا على حكاية الوطن الذي اغتصب والشعب الذي خُذِل.
سماسرة الحكم قد تتعارض مصالحهم وتتباين أساليبهم ومنهجياتهم في إدارة شؤون الدولة أو الشعب، إلا أنهم دائماً يتشابهون إلى حد التوأمة في تبني القمع والعنف والإرهاب الفكري والسياسي نهجاً وسبيلاً للبقاء في السلطة والمحافظة على المصالح والمكتسبات ومنظومة الفساد التي تشكلت ونمت في حجرهم بسبب غياب الديمقراطية والشفافية وحرية الرأي والتعبير، لذلك فإنك تجد المنافسة على أشدها بين السلطة الفلسطينية في الضفة وحركة حماس في غزة على تبوء المرتبة الأولى في انتهاك حقوق الإنسان، فنظرة سريعة إلى التقارير والبيانات التي تصدر عن منظمة العفو الدولية وهيومان ريتس واتش وغيرهما من الوكالات والمفوضيّات الأوروبية والأممية، هذا فضلاً عن تقارير وبيانات منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية؛ تظهر السباق المحموم بين الفريقين للتنكيل بالمواطنين وتكميم أفواههم وكسر أقلام الصحفيين… سعياً لتسجيل أرقام قياسية ونيل عار الترتيب الأول في قائمة انتهاك الحقوق وقمع الحريات.
سيكوباتية الاستبداد التي جبلت عليها قيادات السلطة الفلسطينية التي لا تحتمل فكرة توجيه النقد إليها أو معارضتها، دفعت أجهزتها الأمنية يوم الخميس الماضي إلى قيامها باقتحام منزل الناشط نزار بنات في مدينة الخليل واعتقاله وضربه بوحشية حتى فارق الحياة. نزار كان مطلوباً ليس لجيش الاحتلال وإنما لأمراء أوسلو في السلطة الفلسطينية لأنه تجرأ وتحدث عمّا يراه فساداً في الحكم والإدارة، وكان آخر ما تحدث عنه صفقة لقاح فيزر بين إسرائيل والسلطة، فلم تجد الأخيرة في جعبتها ما تفند به “مزاعمه” سوى الطريقة الوحيدة التي تعرفها للتعامل مع كل من يعارض بشدة، فأسكتت الرجل إلى الأبد فقتلته بعد أن أوسعته ضرباً أمام أفراد أسرته، لتشفي صدرها الموبوء بالغل والتعالي وليكون لمن خلفه آية.
تقرير الطب الشرعي تحدث عن كدمات في جميع أنحاء جسد نزار ناجمة عن ضرب مبرح أفضى إلى نزيف في الرئتين أدى إلى وفاته، ليطل علينا من خلال شاشة الجزيرة في نفس اليوم إعجوبة من أعاجيب الزمان وبوق نشاز من أبواق السلطة، فيوبخ “من يتعجلون النتائج ويدّعون أن نزار قد تم ضربه بأدوات حادة من بينها عتلة” -وفقاً لإفادة بعض من شاهدوا واقعة الاعتداء- فيحتد صوته وتعلو نبرته حتى قارب طبقة “السوبرانو”، وهو يقول: “إن تقرير الطب الشرعي تحدث عن ضرب وكدمات صحيح، لكنه لم يتحدث عن عتلة”! ثم أبى إلا أن يكمل مشوار الهذيان لآخره، فقال: “عموما، حتى لو كان الضرب خفيفاً لطيفاً لكنه أدى إلى الوفاة، فهذا مرفوض”. هذا الدوار والترنح يصيب عادةً المجرمين المتلبسين بالجريمة، خصوصاً في الجرائم الوحشية، بحيث يحاولون قول أي شيء حتى لو كان شاذّاً لحين التقاط أنفاسهم والتفكير في ما يمكن صياغته من مبررات غالباً ما ستكون مرتبطةً بالمجني عليه، بحيث يحمّلوه مسؤولية إجرامهم في حقه.
تصر أجهزة الأمن الفلسطينية كل فترة على تتويج سجلها المخجل في مجال حقوق الإنسان بجريمة تثبت تغلغل ساديتها وازدياد توحشها، ففي سنة 2008 قامت هذه الأجهزة بقتل الشيخ ماجد البرغوثي من قرية كوبر في رام الله بسبب انتمائه السياسي، حيث أقام العساكر والضباط السيكوبات مهرجان تعذيب على جسده اشتمل على فقرات الشبح والضرب والصعق حتى فاضت روحه دون ذنب جناه، واليوم تعود العصابة ذاتها لتذكر بعنفوانها الإجرامي الذي لم يفتر وتقدم عليه برهاناً بجريمة مروعة راح ضحيتها الراحل نزار بنات، مع ملاحظة أن الأجهزة الأمنية السيكوباتية التابعة للسلطة لم تتوقف يوماً عن التدرب على التسبب في الوفاة والتعذيب خلال الفترة الفاصلة بين الجريمتين، فثمة تقارير لمنظمات فلسطينية توثق اعتقالات وضرب وشبح وصعق بالكهرباء… يتم ارتكابها باستمرار ضد نشطاء ومعارضين فلسطينين، مع تزايد ملحوظ في وتيرتها خلال السنة الماضية بسبب استغلال هذه الأجهزة لحالة الطوارئ التي تم إعلانها لمكافحة تفشي جائحة كورونا.
إذا كان التاريخ يسجل أن الاحتلال الإسرائيلي هو آخر احتلال استيطاني على وجه الأرض، فإنه سوف يسجل أيضاً أنه الاحتلال الأكثر حظاً بوجود سلطتين في الضفة والقطاع تفرقهما المصالح والأطماع ويجمعهما احتراف الاتجار بحقوق الشعب وآماله والاستخفاف بعذاباته وآلامه، لتغرقا في صراعاتهما بينما الكيان الغاصب ماضٍ في تنفيذ مهمته الوجودية بتوسيع استيطانه وتوطيد أركانه، وبين هذا وذاك يعيش الفلسطينيون أو يموتون كما مات نزار بنات وغيره من رهائن السلطتين.