مرايا – كتب : د. مهند العزة
أما بعد: فالترحم على أموات الكفار لا يجوز، سواء كانوا من اليهود والنصارى، أو كانوا من غيرهم، لقوله تعالى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ }التوبة:113{.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى: وقد قال تعالى: إدعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين. ومن الاعتداء في الدعاء: أن يسأل العبد ما لم يكن الرب ليفعله، مثل: أن يسأله منازل الأنبياء وليس منهم، أو المغفرة للمشركين ونحو ذلك”.
هذه الفتوى الاستئصالية منشورة على موقع “إسلام ويب” تحت عنوان “الاعتداء في الدعاء” مع عشرات الألوف من مثيلاتها من فتاوى تحقير المخالف حياً أو ميتاً على مواقع أخرى وفي كتب أسست لهذا الإقصاء والكراهية اللتان تم تلبيسهما ثوباً من القداسة جعلهما في منزلة الواجب الذي يثاب فاعله ويأثم تاركه، فإذا ترحمت على عالم أو مبدع أو كاتب غير مسلم، أو مسلم لكن “لم يصح إسلامه” بسبب آرائه واتجاهاته الفكرية بفتوى معمم من على منبر في صحراء جرداء أو من خلف شاشة تلفاز أو جهاز حاسوب مصنوع في “بلاد الكفار”، فأنت آثم قولاً واحداً لمخالفتك أمراً واضحا، والأبشع من ذلك أنه إذا كان “حظك العاثر” قد جعل أبيك يختار لك أم غير مسلمة وفارقت الحياة فإنك تأثم بالدعاء لها بالرحمة والمغفرة طالما أسلمت الروح وهي على دينها، فيكفيك أن تنظر إلى صورتها المعلقة في صدر غرفة الجلوس أو في محفظتك أو على جهازك الخلوي وأن تشم ملابسها وتنام في فراشها من حين لآخر لكن حذاري أن تقع في المعصية وتطلب من خالقها أن يرحمها ويجمعك بها بعد الممات.
رحمة الله التي يقول وكلاء صكوك الغفران هؤلاء أنها “وسعت كل شيء”؛ تضيق في أعينهم عن استيعاب الموتى المخالفين في الدين أو الفكر، فهؤلاء في ما يبدو ليسوا حتى “شيء” تسعه الرحمة التي وسعت كل شيء.
الشيفونية التي تشربها وتوارثها من يرون أنهم ما خلقوا إلا للاستهلاك والإهلاك، في حين خلق غيرهم ليخترع ويكتشف ويطور نيابةً عنهم بينما هم يتحلقون حول قصعة الثريد، ويتحينون فرصة تحقيق الحلم بالتسرّي بالإماء والتنعم بالعبيد، كما نادى بذلك شيوخ الوهابية؛ جعلتهم يرون أنفسهم سادةً وما دونهم مجرد غنائم، وهم من بعد ليسوا بحاجة لقيم الاحترام والتسامح والتعايش مع الآخر فهم وحدهم من استحق العيش والتكريم ودار النعيم.
حينما أعلن خبر رحيل الكاتبة الكبيرة نوال السعداوي، بدأ محتكرو الرحمة تجار صكوك الغفران في رصد كل منشور على وسائل التواصل الاجتماعي ينعاها ويترحم عليها؛ ليتتبعوه بالنهي والزجر والتحذير، مع يقيني أن الغالبية الساحقة من خفافيش الظلام أؤلائك لم يقرأُ صفحةً من كتاب أو سطراً من مقالة كتبتها نوال السعداوي، تماماً كما رد أحد قاتلي الكاتب المصري الراحل فرج فودة حينما سأله القاضي “لماذا قتلته”، فأجاب: “لأنه كافر”، فسأله: “ماذا قرأت له” فأجاب: “أنا أمي لا أقرأ”. المشهد نفسه يتكرر كل مرة يموت أو يقتل فيه شخص غير مسلم أو ذا اتجاه علماني أو لبرالي أو يساري… تماماً كما حدث مع الكاتب الراحل ناهض حتر، وبالأمس القريب فور إعلان مقتل الناشط الفلسطيني نزار بنات الذي قام موتى بلا قبور” بالبحث في تغريداته ليجدوا فيها ضالتهم، فصنفوا الرجل بأنه “كافر لا يجوز الترحم عليه ومن يفعل ذلك يلقى أثاما”.
أين يمكن أن تجد على وجه الأرض حواراً بين بشر يناقش جواز إلقاء السلام على المخالف الحي والترحم عليه إذا مات، فإذا قلت هلمَّ إلينا إنه عندنا، فأقول لك لكننا بهذا الخلق لسنا على وجه الأرض وإنما تحت قعرها.
وليام شيكسبير وأوسكار ويلد وصامويل بيكيت وبيتهوفين وموتزارد وتشايسكوفكي ودافنشي وبيكاسو وإسحاق نيوتن وتوماس أديسون وألبرت أينشتين وألكساندر فليمنغ وستيفان هوكينغ ونيتشا وهيغل وديكارت ومارتن لوثر كينغ… وكل فلاسفة ومصلحي وعلماء وأطباء وأدباء ومخترعي العالم من غير المسلمين الذين جعلوا لحياة البشر قيمة ومعنى وساهموا في رقيّها وحمايتها وإطالة أمدها، يتلظون ناراً ويصلون سعيراً ويأكلون زقّوماً ويشربون حميما، بينما من يروج ثقافة الكراهية والتمييز والإقصاء وتقديس القتل وتكريس إذلال المرأة وإمتهان كرامتها والبلطجة على الآخرين وسرقة نسائهم وأطفالهم واسترقاقهم ثم فرض إتاوة على من ينجو منهم… من جماعات التطرف الفكري عشّاق الفتّة والفتوى أئمة تكفير المخالف وقتله وهدم الآثار وتحريم الفنون والدعاء على “النصارى” في مكبرات الصوت ووجوب أخذ الجزية منهم “عن يد وهم صاغرون” ومنعهم من دخول مكة والمدينة حتى يومنا هذا “لأنهم نجس” كما يقول ابن القيم في كتاب “أحكام أهل الذمة”… هؤلاء يظنون أنهم في قبورهم يتنعمون وفي جنان النعيم هم خالدون.
التعايش والتسامح وقبول الآخر وإحترامه في حياته ومماته ليست نُقولاً تتلى خارج سياقها في خطب البث المباشر أو مؤتمرات حوار الأديان وحفلات الاستقبال في سفارة أو منظمة دولية؛ ثم تعود إلى صحيح تفسيرها وتطبيقاتها عند مناقشة تعديلات الدستور وقوانين الأحوال الشخصية والعقوبات والحماية من العنف الأسري وغيرها من تشريعات تكريس التمييز، وإنما هي احتكام وتحكيم اتفاقيات حقوق الإنسان الأساسية التي توافقت عليها إرادة الأمم وتكفل العدالة والمساواة للجميع، ثم هي من بعد ممارسات تعلي من قيمة الإنسان بمعزل عن معتقده وأفكاره.
لا تقوى مفردات أي لغة على وصف مستوى الانحدار الأخلاقي لثقافة تمجد الحقد والكراهية ضد الأموات الذين كل جريمتهم أنهم اختاروا طريقاً باتجاهين يقبل الاختلاف ولم يسلكوا طريقاً استئصالياً ذي اتجاه واحد آخره حائط لبسه بعضنا وفات فيه، بينما بعضنا الآخر ينتظر.
إن لم يتدخل المستنيرون من رجال الدين ليحدوا من موجة هذه الفاشية العاتية بالتبرؤ من كل ما يقصي الآخر حياً أو ميتاً، مع ترسيخ ثقافة قبول الاختلاف من خلال المناهج والعظات والخطب، فإن غاية المرام سوف لن تكون المطالبة باحترام حقوق وكرامة الأحياء المختلفين والمخالفين، ولا حتى الترحم على من يموت منهم، وإنما تركهم يرقدون بسلام والكفّ عن ملاحقتهم بفتاوى كراهية الموتى وتحقيرهم.