أعلنت عصبة الأمم في مثل هذا اليوم من العام 1921، مشروع الانتداب البريطاني على فلسطين، وصودق عليه في 24 يوليو/تموز 1922.
لكن المشروع وضع موضع التنفيذ في 29 سبتمبر/أيلول من العام نفسه، وحرص محرروه على الإشارة إلى أنه جاء بناءً على الوعد الذي أطلقه وزير خارجية بريطانيا جيمس بلفور عام 1917 بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.
ونص إعلان عصبة الأمم على عدم الإتيان بعمل من شأنه الإضرار بالحقوق المدنية والدينية للسكان الأصليين لفلسطين وصيانة حقوقهم، عطفًا على تشجيع التعاون مع الجمعية الصهيونية لتسهيل هجرة اليهود لفلسطين وإكساب الجنسية الفلسطينية لأولئك المهاجرين، ضمانًا لإنشاء وطن قومي يهودي لهم، بحسب نص القرار.
وعُرف صك الانتداب، كخارطة طريق لدولة الانتداب، ابتداءً من ديباجته التي أكدت بأن الدولة المنتدبة بريطانيا ملتزمة بتنفيذ “وعد بلفور”، في العمل على إنشاء “وطن قومي لليهود” في فلسطين، واعتراف بما اعتبر صلة تاريخية تربط اليهود بأرض فلسطين، وبالأسباب التي تبعث على إعادة إنشاء وطن قومي فيها.
واتبعت بريطانيا طيلة فترة الانتداب على فلسطين سياسة تهدف إلى تعزيز مسألة “الوطن القومي لليهود” والعمل بأسلوب التسويف والمماطلة مع طلبات العرب، والوصول إلى أكثرية سكانية يهودية في فلسطين مع طرح بعض المشاريع الوهمية أو “الصفقات” المبهمة والغامضة لإشغال وإشعال العرب بها.
أثر الانتداب
وكل مواده الثمانية والعشرين، أعطت للدولة المنتدبة كل شروط الاحتلال والاستعمار لفلسطين، وما خطط له وما قامت به الدولة المنتدبة عمليًا.
وجاء في المادة الرابعة من صك الانتداب: “يعترف بوكالة يهودية ملائمة كهيئة عمومية لإسداء المشورة إلى إدارة فلسطين والتعاون معها في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية، وغير ذلك من الأمور التي قد تؤثر في إنشاء الوطن القومي اليهودي ومصالح السكان اليهود في فلسطين”.
وبهذا يتضح أن عصبة الأمم منذ بداية عملها كانت تتحكم فيها الدول الكبرى التي كانت ضد حقوق الشعب الفلسطيني، ومهدت لإنشاء الدولة اليهودية في فلسطين رغم ما نص عليه ميثاقها بالتأكيد على حق تقرير المصير للشعوب المحتلة وتحقيق الأمن والسلام الدوليين.
ونصت المادة الخامسة من صك الانتداب، على أن تكون الدولة المنتدبة مسؤولة عن ضمان عدم التنازل عن أي جزء من أراضي فلسطين إلى حكومة دولة أجنبية، وعدم تأجيره إلى تلك الحكومة أو وضعه تحت تصرفها بأي صورة أخرى.
فيما نصت المادة السادسة على إدارة فلسطين -مع ضمان عدم إلحاق الضرر بحقوق ووضع فئات الأهالي الأخرى- أن تسهل هجرة اليهود في أحوال ملائمة، وأن تشجع بالتعاون مع الوكالة اليهودية المشار إليها في المادة الرابعة حشد اليهود في الأراضي الأميرية والأراضي الموات غير المطلوبة للمقاصد العمومية.
ولم تكن السلطة المنتدبة على فلسطين غايتها، كما نصت المادة 22 من عهد العصبة، تحقيق رفاهية وتقدم شعب الإقليم الأصلي كأمانة مقدسة في عنق المدنية بل بكل بساطة التمهيد والتهيئة لترجمة وعد بلفور إلى واقع عملي، وإقامة الدولة اليهودية في فلسطين.
وكان لصك الانتداب الأثر الكبير على الفلسطينيين، إذ أثر بشكل واضح على صيرورتهم الاجتماعية والسياسية والإدارية؛ فصك الانتداب لم يتجاهل واقع فلسطين التاريخي والقومي فحسب، وإنما تجاهل الأكثرية العربية الساحقة (90% من مجموع السكان).
وشكل مخالفة لميثاق عصبة الأمم بحسب ما جاء في المادة 22، إذ جعل لرغبة السكان الأصليين المقام الأول في اختيار الدول المنتدبة، فالعرب، وهم السكان الأصليون والأغلبية الساحقة، لم يختاروا بريطانيا، بل إن الحلفاء والمنظمة الصهيونية العالمية هم الذين اختاروها.
ويمضي صك الانتداب في تجاهل الشعب الفلسطيني الذي يفترض أن الانتداب أقيم من أجل إيصاله إلى الرفاهية والتقدم والاستقلال الناجز، فلا ينص في أية مادة منه على تعامل سلطة الانتداب مع هيئات تمثله، ولو على غرار الوكالة اليهودية*.
عمليًا، نفذت الدولة المنتدبة مواد الصك وزادتها في قمع السكان العرب والضغط عليهم بممارسة التطهير العرقي المنظم، بكل الوسائل والأعمال الإجرامية؛ برز ذلك في تسمين المنظمات الصهيونية عسكريًا وتجهيزها لوجستيًا وتدريبها في معسكرات الجيش البريطاني وعلى يد القوات البريطانية، مثل: “هاغاناه” و”اشتيرن” و”آرغون”.
ورغم أنها كانت غير قانونية، فإن البريطانيين اعتمدوا عليها عند القيام بعمليات نصب الكمائن ضد الثوار والمقاومة الفلسطينية.
و”قدمت الهاغانا الآلاف من الرجال الذين انضموا إلى قوة الشرطة الموازية “بدوام جزئي” التي جمعها البريطانيون أثناء محاولتهم سحق الثورة الفلسطينية.
وتم جلب قادة “الهاغاناة” إلى “فرق ليلية خاصة” بقيادة أوردي وينجيت الضابط البريطاني المعروف بعنفه بشكل خاص، ورغم كونه “شخصًا غريب الأطوار تمتع بدعم من رؤسائه في فترة حرجة- وساعد في تشكيل تكتيكات وفكر الرجال الذين قاموا بتجريد الفلسطينيين من ممتلكاتهم قسرًا وطردهم من ديارهم”.
وحين صدر “وعد بلفور” كان تعداد اليهود في فلسطين لا يزيد عن 5% من مجموع عدد السكان، و”أصدرت الحكومة البريطانية أوامرها إلى الإدارة العسكرية البريطانية الحاكمة في فلسطين، أن تطيع أوامر اللجنة اليهودية التي وصلت إلى فلسطين في ذلك الوقت برئاسة حاييم وايزمن، وعملت على تحويل قوافل المهاجرين اليهود القادمين من روسيا وأوروبا الشرقية إلى فلسطين، ووفرت الحماية والمساعدة اللازمتين لهم”، باستمرار من خلال الإدارة البريطانية المنتدبة.
إنهاء الانتداب
وقبيل إعلان إنهاء الانتداب البريطاني على فلسطين، وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 1947 على قرار تقسيم فلسطين إلى دولة يهودية (56% من مساحة فلسطين الكلية)، ودولة عربية (43% من المساحة) فلسطينية وتدويل منطقة القدس (1% من المساحة).
لكن الانسحاب البريطاني، قبل شهر من موعده المقرر جاء مفاجئًا بالنسبة للعرب، حيث أنهت بريطانيا انتدابها في 14 أيار/ مايو 1948، وانسحبت ولم تعطِ للفلسطينيين أية فرصة حتى آخر لحظة، لأن يمتلكوا أية مقومات للدفاع عن أنفسهم.
بينما كانت انسحبت من المناطق اليهودية قبل ستة شهور تاركة للصهاينة الكثير من السلاح والعتاد ومعسكرات الجيش البريطاني بكل تجهيزاتها، وبالتالي بريطانيا تتحمّل المسؤولية الكاملة سياسيًا وتاريخيًا وأخلاقيًا وقانونيًا، عن المحرقة الحقيقية والنكبة الشاملة التي حلت بالشعب العربي الفلسطيني وما زال يعيشها حتى اليوم.
وبعد صدور وعد بلفور، اتخذت المقاومة الفلسطينية أشكالًا أكثر شمولًا وعنفًا، وكثرت المؤتمرات الشعبية خاصة بعد عقد المؤتمر الإسلامي الأول عام 1919، إذ انعقد في الفترة 1919 – 1929 أكثر من سبعة مؤتمرات تؤكد جميعها على ضرورة الوحدة العربية لدرء المخاطر الصهيونية والسعي لنيل الاستقلال الوطني.
واكتسبت المظاهرات التي اندلعت طابع العنف وتخللتها صدامات مع الجنود البريطانيين الذين اعتبرهم الشعب الفلسطيني مسؤولين عن الوجود الصهيوني والهجرة اليهودية التي لا تتوقف، وكانت أهم تلك المظاهرات في موسم النبي موسى من أعوام: 1920 و1921 و1923 و1924.
ومنذ النكبة الفلسطينية عام 1948، وحتى يومنا هذا، والشعب الفلسطيني ما زال يعاني الويلات وأشد المعاناة جراء استمرار الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية المحتلة، ومواصلة جرائمه واعتداءاته على المواطنين وممتلكاتهم ومقدساتهم ومصادرة أراضيهم لصالح الاستيطان، ناهيك عن تهويد القدس وتغيير طابعها الإسلامي، ومخططات تهجير وطرد السكان.