على ذرى جبل القلعة، وسط العاصمة الأردنيّة عمّان، بين جبال تهدل لتغفو سعيدة، نثرت وزارة الثقافة مساء (أمس) الأحد، حكاية موسيقيّة، أدبيّة، مسرحيّة، تنبض بمدلولات راقية من حضارة الأردن، واحتفالها بمرور مئة عام على تأسيس المملكة الأردنيّة الهاشميّة؛ التأسيس الذي واكب إبداع َالثقافة والفنون ونهوض عوالم الحلم الهاشمي الذي توارثته أجيال من سدنة الأسرة الهاشميّة الكريمة.
جلالة الملك الهاشميّ عبدالله الثاني، انتدب وزير الثقافة نائب رئيس اللجنة العليا لاحتفاليّة مئويّة الدولة الأردنيّة علي العايد، الذي رعى أوبريت “وطني… شمس”.
يقف “العايد” مبهورًا بالجيل المبدع من الفنانين والشعراء والموسيقيين، وتلك الفِرَق التي أدارت حكاية عن أردن الجمال والمحبّة، عن تلك الدولة التي أسَّسها ملوك رسموا للأردن معبَرًا حضاريًّا موصول الأجنحة، عاليَ الإحساس بقيمة الجغرافيا والتاريخ لأرض الأردن الحضاري المعاصر.
ينشُر الأوبريت البهجة مع تسارع الحركات الموسيقيّة؛ تلك البهجة التي تُعلي القيم وتُعمّق مشاعر الانتماء مع انطلاق الغناء والرقصات الوطنية.. محاولات جعلتنا نشارك دموع أمهات الشهداء؛ شهداء الحرية والأصالة التي رافقت مسيرة الأردني العربي النبطي الهاشمي، في تقنيات الأوبريت الغنيّة بنفحات من المدّ الموسيقى الصوفي، والوطني المشتَّل بالقوّة والأصالة، والموروث الشعبي الحكائي الشفاهي، لنقترب من عز دولة النموذج المثير للجدل والحياة والدهشة.
تعب، وفن عريق، فما إن تُنهي مشاهدة فقرات الأوبريت المكثَّفة، حتى تنال منك مختارات الموسيقى والأغاني التي ركَّز عليها العمل في ثلاثة محاور إبداعيّة فنيّة، أوّلها عالمية العروض الوثائقية التي أشاعت الروح الوطنية، وركّز ثانيها على الاعتزاز بالدولة الأردنية، وتأسيس المملكة الأردنية الهاشمية؛ مملكة الحب الهاشمي.
وثالثها ارتكاز الأوبريت على قصص ولوحات غنائيّة مُشبعة بالحنين والصَّبر تجسِّد مجد الأردنيين نشامى مسارات التاريخ الإنساني الحضاري، منذ انطلاق الحضارة البشرية في الأردن؛ حضارة الأنباط الأوائل، وصولًا إلى إشراقة التسامح الإسلامي ونور الحق، واقترابًا مهمًّا من تجسيد الثورة العربية الكبرى، حيث أبرز الأوبريت مصداقية وأهمية الشريف الحسين بن علي الهاشمي عندما أطلق رصاصة الحرية والتحرُّر من نير الاستعمار، وأبرز دور ملك العرب الهاشمي في التأسيس للمشروع العربي، وتحرير العرب من نير الطورانيّة وأطماعها القوميّة، وصولًا إلى محطة الأردن الحديث الذي أضاءته شموس بني هاشم؛ ذلك أنَّ العالم وقتها نظر إلى تلك القوّة ووجد فيها نقطة فاصلة من تاريخ المنطقة الحضاري والإنساني والثقافي، على الرغم من المعاناة.
ويرسم العمل الإبداعي الذي أنتجته وزارة الثقافة، بدعم من شركة أدوية الحكمة، مسارات الجمال والحب والقوة والعلم والتنمية في المملكة الأردنية الهاشمية خلال المئة عام الماضية، حيث يظهر الملك عبدالله الأوَّل طيَّب الله ثراه مجسّدًا على المسرح يتلو خطاب الاستقلال، مرورًا بالملك طلال والملك الحسين طيَّب الله ثراه.
في هذا العمل المسرحيّ الإيمائيّ الذكيّ، المصحوب بموسيقى شاعرية ومختارات من أدب أردني رفيع، تجلَّت البهجة التي تحمل الإشارات والتنبيهات بأنَّ الأردن القويّ هو عنوان حرية الأمة.
مع الفن الراقي الرفيع، نجح مخرج الأوبريت في تقديم تحفة من المسرح والموسيقى، الغنيّة بالتفاعل بين الوثيقة والصَّوت، وابتكار جماليات الأداء، ليصل بنا إلى حالة تخيّم عليها نفحات من العشق والعطر التي سرت في الجمهور، معززًا ومكرسًا النَّهج الأردنيّ الهاشميّ في ديمومة الجمال والحب والبناء والثقة في عهد جلالة الملك عبدالله الثاني.
يمتِّعنا الفنّ الأردنيّ، حاملًا بصدقٍ ورقيّ، تلك المختارات الموسيقيّة واللوحات المسرحيّة والرقصات الدارجة الأصيلة، إلى صلابة الإنسان الأردني العربي، لتعلو الموسيقى الأوركسترالية؛ بكل بساطتها، وتشكِّل امتدادًا لكل دور من أدوار البناء والتنمية والقوة في حاضر وماضي ومستقبل المملكة، فجعلتنا نقف محيّين كل عمل اجتهد لمواجه التحديات، مستشعرين تضافُر آمال الجندي والمعلم والطبيب والمزارع والشاعر والفنان، فهم الدِّرع الحقيقيّ الذي يحمي أرض الوطن، ويحمي الدولة الأردنية الحديثة، بروحها ورسالتها الهاشميّة السامية.
يستنهض الأوبريت تلك اللّمحات والمفاصل المهمّة في تاريخ الأردن وحضارته، (بترا) انطلاقًا من اللوحة المؤابيّة الأولى التي تستعيد أمجاد أهل هذه الأرض وتاريخهم المشرِّف وبطولاتهم في مقارعة الظلم والعدوان، وتُبرز التضحية بالغالي والنفيس من أجل تحقيق النصر وتوطيد ملامح الدولة والحفاظ عليها. إضافة للوحة النَّهر المقدَّس؛ نهر الأردن الخالد الذي تعمّد فيه السيد المسيح، مرورًا بلوحة الأنباط التي تؤكد عمق ارتباط الإنسان الأردني بأرضه وكيف بنى مدنها وحفرها بالصخر من أجل أن تبقى هذه الأرض مصانة ومهابة، وصولًا إلى الإسلام ودور الأردن وأجناده في الفتوحات منذ مؤتة وشرحبيل وغيرها من المعارك والأحداث الفاصلة في تلك الفترة.
“..يا أيها المحتل ما أحلى العذابا”
.. و”يا عيال شدّوا الحيل..”.
.. صوت وطني، يعيدنا إلى الإحساس بالأرض والإنسان الأردني، الصادق الذي ابتكر العمل وكل الفعاليات التي شاركت به، لوحات إبداعيّة فيها جمال وسرعة، وإقناع تربوي، فيها ربط بين الموروث والمعاصر لمجموعة من الأغنيات الوطنية والمقطوعات الموسيقية المهمّة والتي تعتبر بدايات فنيّة تكمل مسيرة اجتهد فيها الفنان الأردني وأسَّس لمسرح وموسيقى مميّزة.
بين لمحات وأخرى بدت الإكسسوارات والديكورات فطريّة غنيّة بالبهجة، وهي مجموعة من الأزياء التي تتوافق مع المراحل التاريخيّة، وهذا ما جعل المخرج يدمج عديد الفنون والسينوغرافيا والحكواتيّة والوثائقيّات المصوَّرة، واللوحات التشكيليّة ذات المرجعيّة التاريخية، بما رافقها بذكاء، من الرقصات، خصوصًا رقصة السيدات بالمناجل طلبًا للحريّة والتحرُّر من الاستعمار والتتريك.
أوبريت أردني، ناجح بامتياز؛ لطيف، غني، ينحاز المُشاهد خلاله إلى الغنائيّة الحضاريّة، وينبش في استقرار الثقافة والفنون كمكمِّل أساس لبهجة وسعادة وأداء الإنسان على هذه الأرض.
مندوب جلالة الملك عبدالله الثاني، وزير الثقافة علي العايد لفت إلى إنَّ “هذا العمل الذي جاء ضمن الخطة الوطنيّة للاحتفاء بمئويّة الدولة الأردنيّة، يُعدُّ واحدًا من الأعمال المهمّة والتي تشرَّفنا في وزارة الثقافة أنْ نقدِّمها في هذه المناسبة المهمّة، مؤكدين حرصنا على أهمية أن نقدِّم تاريخ الأردنيين منذ البدء، منذ أن بدأ الانسان الأردني أولى خطواته على هذه الأرض وكتب أوَّل الحروف على صخورها وجبالها وترَكَ إرثه المادي واللامادي في جنباته”، بحسب ما أوردته وكالة الأنباء الأردنية- بترا.
الوزير العايد، يؤكد أهمية الاحتفاء بهذه المناسبة، مترافقًا مع تقديم عمل فني ملحمي يرصد تاريخ الأردن ويقدِّم نماذج مهمّة من حضارته، من خلال أسلوبٍ فنيٍّ راقٍ، وموسيقى تعيد إنتاج ذاكرة الأردن وتضحيات إنسانه.
وأشار العايد إلى أنَّ الأردن الدولة التي تعتبر من أقدم الدول في المنطقة بإرثها وقيمها ونظامها السياسي عليها أن تسجِّل ذاكرتها، وأنَّ مرور مئة عام من عمرها والعبور إلى مئوية جديدة يؤكد التزامنا بالقيم التي توارثناها في ظلِّ الراية الهاشميّة وملوك بني هاشم الذين قدَّموا كل ما يمكن ليبقى الأردن نموذجًا راسخًا في البناء والعطاء.
وعبَّر العايد عن شكره وتقديره لِما قدَّمته شركة أدوية الحكمة من تبرُّع سخيّ لإنتاج هذا الأوبريت، الذي يعتبر علامة فارقة في تاريخ الفن الأردني، مؤكدًا أهمية العلاقة بين القطاعين العام والخاص والتي بُنيت على أساسها المداميك الأولى للدولة الأردنية الحديثة، مثمِّنًا الجهد الذي تقدّمه شركة أدوية الحكمة في خدمة المجتمع الأردني، والمشهد الثقافي والفني.
يُشار إلى أنَّ هذا العمل الإبداعي الذي يُعتبر بداية واثقة لمسرح غنائي أردني، وأوّل عمل يلحَّن ويغنّى من أشعار الملك المؤسس عبدالله الأوَّل طيَّب الله ثراه، هو من إخراج المخرج محمد الضمور وألحان الفنانة ليندا حجازي، وكلمات الشاعر الراحل جريس سماوي، والشاعر أحمد الفاعوري.
وشارك في العمل مجموعة من الفنانيين وهم: الفنانة القديرة عبير عيسى بدور الجدّة، والفنان محمد المجالي بدور ميشع، والفنان محمد الضمور بدور الملك المؤسّس، والفنان حابس حسين بدور الشريف الحسين بن علي، والفنان حسن خمايسة بدور الحارث، والفنان بكر قباني بدور المُعلّم الإمام، والفنان خليل شحادة بدور أبو النشمي، والفنانة هيفاء كمال بدور النشميّة، والفنانة بيسان كمال/ أم النشمي، ومشاركة خاصة لأعضاء فرقة الاستقلال والتي قدَّمت العروض الراقصة واللوحات الفنية.
لقد انطلقت حركة الفن والمسرح والموسيقى في الأردن، مع هبوب رياح التغيير من واقع حفل بالألم والاضطهاد الاجتماعي والاقتصادي، نتيجة الاستعمار التركي والغربي، والتاريخ يستعيد ارتباط علاقة الموروث الفني والأدبي والموسيقى، مع ما كانت من أعمال تردّدت في كل المدن والبوادي والأرياف الأردنية، وكانت بداياتها ناجحة انسجمت فيها الأهداف الجمالية الإنسانية، وهو من أبدعت به وزارة الثقافة، ليقترن الفن مع روح وأصالة ما كان يتمّ على الأرض؛ ذلك أنَّ المملكة اليوم، تُعدُّ النموذج في الأمن والأمان والحب والأصالة والتكاتف الاجتماعي الذي يحمي الأردن الهاشميّ.
يحتاج هذا العمل إلى نشر محتواه الفني والأدبي، وتعميمه في عروض رقميّة ومباشرة أردنيًّا وعربيًّا، ليكتمل الجمال ويرتقي الجهد الفني والإنساني التنموي.
أوبريت، تجلّت فيه الإبداعات الأردنية، وشاركت به نخب فنيّة وإبداعات شابة تمتلك حس الفنون المشتركة، وتستحق التنوية والتكريم لما قدّمته من جمال ورقيّ وقوة في تحويل المنجز الحضاري إلى فن يلاحق الشمس، ليسطع مع التاج الهاشميّ، مجسِّدًا تاريخ أمّة عنوانها الأردن الهاشميّ.
(الرأي – حسين دعسة)