د. مهند العزة
“دَعْ عَـــنْــكَ لَــوْمِــي فَــإِنَّ اللَّــوْمَ إِغْــرَاءُ * وَدَاوِنِــي بِــالَّــتِــي كَــانَــتْ هِــيَ الــدَّاءُ”.
بيت الشعر هذا لأبي نواس الذي مضى مثلاً يُضرَب بمناسبة وبغيرها، ينطبق على عبارة “النقد البنّاء” التي يكثر مرضى حساسية النقد استخدامها مع بغضهم لمعناها ومغزاها لما تسببه من التهاب في نرجسيتهم وتهيّج في أنويّتهم، ذلك أنّ ترديدهم لها يحقق فائدةً مزدوجة؛ إذ هي من ناحية تساهم في إظهار الشخص بمظهر متّسِع الأفق رحيب الصدر الواثق من نفسه، ومن ناحية ثانية، تعدّ مكنة دفاعيّة ومضاد لحساسية الانتقاد، بحيث يكون بوسع الشخص دائماً رفض أي نقد بدعوى أنّه غير بنّاء، خصوصاً أنّ الخيط الفاصل بين البنّاء والهدّام من النقد؛ كثيراً ما يدُقّ في سياقنا الاجتماعي والثقافي إلى حدّ يصعب معه تمييزه لما تلعبه المعايير الشخصيّة من دور رئيس في توصيفه وتصنيفه. في المقابل، يتّخذ كثيرون من مدمني التنمّر من هذه العبارة تُكأةً لمهاجمة كلّ من يخالفهم الرأي تحت عنوان “النقد البنّاء”، فيشرعون في القدح في الشخص وتسفيه رأيه والتبخيس من قيمة عمله، مع تعظيم للسلبيّات وإنكار للإيجابيّات، ليغدو “النقد” في أيديهم أداة تدمير ونقض.
مقارنة الأدبيات المتوفّرة باللغة الإنجليزيّة بنظيراتها العربيّة في ما يتعلق بتعريف النقد وفنّ طرحه وآليات التعامل معه وإدارته، تظهر البون الشاسع في المحتوى والكمّ بين المصادر المتاحة باللغتين الذي مرجعه اختلاف الثقافة وتباين النضج المعرفي، فكتابة عبارة “Constructive and Destructive criticism” على محرّك البحث في الإنترنت سوف تنقلك إلى كم هائل من المصادر والمعلومات، بينما كتابة العبارة ذاتها باللغة العربيّة “النقد البنّاء والنقد الهدّام”؛ سوف تظهر لك عدداً أقلّ بكثير من المصادر والمعلومات التي يتّسم جلّها بالعموميّة والفهم المبني على آراء شخصيّة ونصوص دينيّة وتجارب محدودة… ومع عدم إنكار أثر الثقافة الدينيّة والتجارب الشخصيّة على التراكم المعرفيّ وتكوين الرؤى والمواقف إزاء قضايا معيّنة، إلّا أن تحليل البعد النفسي وأثر الثقافة السائدة على مفهوم النقد وفنّ التعبير عنه وآليات استقباله والتعاطي معه؛ ينبغي أن يكون نقطة الانطلاق في ما يخصّ أخلاقيات طرحه وتعميق مضمونه وتحديد السبيل الأمثل لتوظيفه بشكل منتج وفعّال.
كثيراً ما يُصنَّف النقد بالهدّام استناداً إلى تحليل دوافعه حينما تكون منطلقاتها متمحورةً حول الغيرة أو المنافسة أو وجود موقف مسبق ممن يوجَّه إليه النقد… ومع التسليم بأهميّة الدور الذي يلعبه الباعث الدافع في هذا الصدد، إلّا أنّ العامل الأساسي –من وجهة نظري- الذي يجعل النقد معول هدم هو قيامه على غير معرفة وسابق اطّلاع، إذّ تتجسّد بجلاء حينها مقولة: “الإنسان عدو ما يجهل”، فتوجيه النقد لعمل ما؛ دون التعرّف على كنهه وفهم مغزاه؛ حاله حال “حلّاق الصحّة” في زمن الكتاتيب الذي يُعمِل مِبضَعه في جسد إنسان مُصدّقاً الكذبة التي كذبها بأنّه طبيب ولبيب، لتكون النتيجة تشويه الجسد ثمّ إلقاء اللائمة على صاحبه.
النقد الهدّام إذن لا يستتبع دائماً وجود دوافع خبيثة أو موجّهة، فكثيراً ما يبادر مدّعو الثقافة أو الفضيلة إلى نقد عمل إبداعي معيّن دون أن يحملوا قصد الإساءة إلى المبدع، لكنّهم بسبب نرجسيّتهم أو رعونتهم أو استخفافهم؛ يكتفون بمشاهدة بعض المقاطع أو “البرومو” مثلاً إذا كان العمل تمثيليّاً، أو الاكتفاء بقراءة فقرات من المقالة، أو –وهذا كثيراً ما يحدث-تكوين وجهة نظر منتقدة للعمل واتّخاذ موقف ضدّه من خلال ما كتبه أو أشاعه الآخرون عنه، وهذا الأخير الذي يمكن تسميته “النقد بالتجيير” جدّ معيب وخطير.
“النقد بالتجيير” من أكثر أنواع النقد الهدّام شيوعاً بين مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي خصوصاً في المجتمعات المتأخّرة ثقافيّاً ومعرفيّا، فهو يعتمد على تبنّي أفراد القطيع لوجهة نظر مثير حملات الكراهية والتنمّر الذي يمثّل الراعي في هذا السياق، فهو يسقط فهمه الخاص المحكوم بأيديولوجية متطرّفة أو بغاية مسيّسة على العمل أو الشخص المستهدف بالنقض والتشويه، ثمّ يقوم بتجييره على شكل قراءة “كاشفة عن البعد التآمري… واستهداف الثوابت… والعبث في منظومة الأخلاق والقيم…”، بحيث تكون تلك القراءة مفعمةً بالتمييز والكراهية، ليتلقفها أفراد القطيع حال دغدغتها لقرون استشعارهم الدينيّة أو الجهويّة أو الطائفيّة، ويتداولوها بينهم فرادى وجماعات مجيّرينها لبعضهم البعض، لتبدأ عواصف إلكترونية ناقمة بالتشكّل سرعان ما تتحوّل إلى أعاصير غوغائيّة مقولبة ذات نزعة استئصاليّة ترسل عينها صوب الضحيّة المرقومة مقتلعةً في طريقها كلّ من يحاول الوقوف في وجهها.
هذا النوع من التضليل الذي يقوم على “النقد بالتجيير”؛ يعتمد على عنصرين وجدانيّين رئيسيّين: أولهما جهل المتابعين التابعين بالموضوع الذي يتم تجيير نقده لهم ويجيّرونه في ما بينهم، مع ضحالة ثقافتهم وانعدام قدرتهم على تكوين موقف خاصّ بهم يعبّر عن هويتهم الثقافيّة وتوجّهاتهم الفكريّة، على فرض وجودها أصلا، الأمر الذي يدفعهم –كما يقول علماء النفس الاجتماعي-بسبب هوانهم الفكري إلى الذوبان في جماعة القطيع متوارين فيه متحصّنين به. أمّا العنصر الثاني، فيتمثّل في حاجة الإنسان المقهور الدائمة لمطيّة يحمّلها تبعة هوانه، والسعي المستمرّ للبحث عن عدو مفترض يفرغ فيه ما يعانيه من كبت وقهر ويستشعر من خلال اضطهاده وتشويه سمعته وتحقير أعماله وإنجازاته؛ بقيمة وجوده وقدرته على المواجهة والمجابهة ولو كان ذلك –كما هو في معظم الأحوال- في غير محلّ ولا سياق ذي صلة، ودائماً تحت مسميّات تضفي على التوحّش والتنمّر هالةً وقداسةً تنقلهما في وعيه من دَرَك الرذيلة إلى مصّاف الفضيلة مثل: “الدفاع عن العقيدة والدين والأخلاق وثقافة المجتمع ودحر المؤامرات والدسائس التي تُحاك ضدّ الأمّة”.
أوجز العرب فأبلغوا حين قالوا: “رحم الله امرأً أهدى إلى عيوبي”، إذّ جعلوا من النقد قيمةً تُهدى، والهديّة غايتها التقرّب ووسيلتها اللطف، وفي نسجنا على ذات المنوال ومحاكاتنا للمقولة بالمقال، نوجز في هذا المقام حول آفة النقد الهدّام، فنقول: “لا خير في امرأٍ أهدى إليّ عيوبه”، لأنّ عكس المدّعي أو الحاقد تشوّهاته الفكريّة على مرآة غيره؛ يكشف عن احتقاره لنفسه وخجله من رؤيتها وجبن مواجهتها، فيفرّ منها إلى الأمام مُسقَطاً ما بها من عوار على أصحاب الرؤى والنيّر من الأفكار. من هنا، فإنّ تعريفنا بعيوبنا هديّة عظيمة، وفرض عيوبنا على غيرنا عمل بلا قيمة وأهون من أن يفتّ في عزيمة.