عمر كلاب
في اللحظة التي ترتعد فرائض كثير من الاشقاء العرب, لمجرد سماع اسمها, وليس لمراجعة احد مرتباتها او اقسامها, كانت مركبات رؤساء تحرير الصحف اليومية ومجموعة من كتاب الاعمدة اليومية, تجتاز الحواجز الامنية مصحوبة بابتسامة وادعة من الحراسات, وصولا الى مكتب مدير المخابرات العامة, او الى “الجناح”, كما يحلو لمنتسبي الدائرة تسمية المبنى الذي يقع فيه مكتب المدير, الذي وصل الى اللقاء على الموعد تماما, فالانضباطية سمة جُند الاردن, ولا شك ان اللواء احمد حسني كان قاصدا ذلك, ليس لتمييز المؤسسة العسكرية والامنية عن المؤسسة السياسية التي عادة ما تتأخر عن مواعيدها, لكنه اراد ايصال رسالة الجهاز الخاصة المضبوطة على المواقيت الوطنية.
اللقاء الذي يُعدّ الاول من نوعه مع الاعلام المحلي لغايات النشر, منذ تأسيس جهاز المخابرات العامة في العام 1964, ابتدأه الباشا, بما يشبه كسر الجليد في التمارين الفكرية, بسؤال ذكي عن تلقي الحضور اللقاح ضد فايروس كورونا, وبالتأكيد يعلم الباشا وضباط الجهاز ان الحضور تلقوا اللقاحات والا لما كانوا في اللقاء, لكنها خطوة استباقية اعتاد جهاز المخابرات على تنفيذها مع الاصدقاء والخصوم, فهو لا يأتي بعد الازمة او الحريق, بل لا يسمح بالحريق ابتداء, فنظرية التأخر والتأخير ليست في قاموس الجهاز الذي عاش في عين العاصفة منذ التأسيس وحتى اللحظة, دون ان تغفو احدى عينيه لحظة.
بمفردتين وثلاث رسائل, يمكن اختصار اللقاء الذي كان اقرب الى مفهوم ورشة العمل, منه الى لقاء صحفي, لذلك آثرت استخدام مفهوم كسر الجليد المعهود في ورشات العمل, والمفردتين هما” التكيف والاحتواء” والرسائل هي منعة الدولة وصلابتها وقوتها, واحتراز الجهاز لاي خطر داخلي قادم او قائم من الداخل والخارج واخرها استجابة الجهاز الموضوعية لمخرجات اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية, بما يكفل نجاح المخرجات على ارض الواقع عبر توفير البيئة الحاضنة الآمنة لنمو الاحزاب وتقدمها على اسس برامجية وطنية, ولم يتحرج الباشا في القول: ” سندعم الاحزاب والحياة الحزبية“.
التكيف والاحتواء
كلمتان خفيفتان على اللسان, ثقيلتان في الميزان الاجرائي والسياسي, اختصر بهما اللواء احمد حسني فلسفة الجهاز, فالاردن وبما فرضته عليه الجغرافيا السياسية, محكوم بمجريات الاقليم وتداعياته وفجاءاته, والحالة الاردنية الداخلية لديها حساسية خاصة لاحداث الاقليم وتقلباته, وما اكثر التقلبات والانقلابات التي داهمتنا خارجا, ولولا مرونة الاردن, وليونة عضلاته بحكم التدريبات المكثفة لاركان الحكم, لما نجح الاردن في اجتياز عواصف الاقليم وانعكاساتها على المشهد الداخلي, فالاردن نجح في التكيف مع الاحداث الخارجية وارتداداتها على الساحة المحلية, ونجح ايضا في التكيف مع سيرورة الاحداث الكونية بمجملها وليس الاقليمية فقط, ولربما كانت هذه الشيفرة الملهمة التي نجح الباشا في تقديمها للحضور, على شكل كبسولة مغلفة بالانجاز.
من فلسفة الجهاز العامة وبتراتبية منضبطة, انتقل مدير المخابرات العامة الى شرح مفصل عن المشهد المحلي, الذي تجاوب باقتدار مع جائحة انهكت دولا باقتصاديات تفوق الاقتصاد الاردني باضعاف مضاعفة, فجائحة كورونا ضربت الاردن واقتصاده المرهق, وكان لا بد من تفعيل ركن الاستجابة السريعة لمواجهة الجائحة, ثم التكيف مع تداعياتها, وهذا ما كان فعلا, فالجهاز كان لاعبا رئيسا ضبط الايقاع الادائي للاستجابة بتوجيهات واضحة وصارمة من الملك وولي عهده, فكانت مهمة تقسيم المناطق وعزلها وتوفير الامن في اللحظات المغرية لمتقصدي الجريمة او اشعال الحرائق السياسية, واعني الحظر الشامل, الذي كان ضرورة وطنية لترتيب البيت الصحي, وافساح المجال دون خطورة وبائية للمهمات العظيمة في احضار اللقاحات وتجهيز المستشفيات الميدانية بمستلزمات مواجه الجائحة.
هل كانت هذه المهمة سهلة او وحيدة, الجواب بالقطع لا, فثمة امن اقتصادي ولقمة عيش لمواطن, جار عليه الوباء واقعده حبيس المنزل, فكانت النصائح او القراءات الامنية الاقتصادية, جسرا لقرار اقتصادي اسهم في تحقيق حزمة امان اجتماعي واقتصادي, كسر حاجز المليار دينار اردني للافراد والشركات الصغرى والمتوسطة, فجيش البطالة والفقر الملازم له, هو البيئة الخصبة للجريمة والتطرف وتاليا الارهاب, فالجهاز وان كانت مهمته استخبارية بالدرجة الاولى, لكنه محكوم لفلسفة الامن الشامل .
اسهاب الباشا في وصف الحالة الداخلية وارتداد الوباء على منظومة الامن الشامل, فتحت الافاق للولوج الى دور الجهاز في منظومة العمل السياسي, ليس على قاعدة التدخل التي نفاها الباشا بقوة وحسم, مؤكدا ان دور الجهاز يقتصر على توفير المعلومة لصاحب القرار, لكنه لا يتدخل في القرار ويعلم جيدا ان هناك اصواتا تؤكد بان الجهاز يتدخل ويصنع, لكنها انطباعية.
الدور الاستخباري ومواجهة الارهاب
من المشهد الداخلي الذي يحظى بالاولوية, الى الدور الخارجي للجهاز, الذي بات له حضور مشهود, بحكم الانجاز والانخراط في الحرب ضد الارهاب منذ اواخر العام 1988, وهو نشاط معلن دون وجل, ونجح الجهاز في احبط 120 مخطط ارهابي بواقع 52 مخطط داخلي, و68 مخطط خارجي, منذ العام 2019, واعتقال 103 عناصر ارهابية, لكن ذلك ليس النشاط الوحيد, فمنذ انفلات الاقليم في اتون الربيع العربي, كانت الحدود الاردنية محاطة باسوار اللهب الارهابي, لكنها وفرت بيئة خصبة لتهريب المخدرات الافة التي يضعها الباشا في خانة خطورة الارهاب ولربما اعلى, ونجح الجهاز في الحرب ايضا بضبط 95 عملية تهريب وايداع 240 مهربا للقضاء, وثمة ما هو قيد التجهيز ايضا, لكنه رفض الافصاح عنه لحين انتهاء مجريات التحقيق.
المشاركة في النشاط الكوني لمحاربة الارهاب, لا يعني ان الجهاز يكتفي بالمشاركة الفاعلة فقط, بل هو على رأس تدريب عناصر الاجهزة الامنية في العالم والاقليم, ولدينا كوادر تدريبية تمتلك من الكفاءة ما جعلها تقف على تدريب معظم العناصر الامنية في معظم دول العالم, بحكم احترافية الجهاز وافراده, الذين يخضعون لمنظومة سلوك وظيفي صارمة, ولا يحتاج هذا الى توكيد فالجهاز مبني على مفاهيم قيمية عالية ومسلكيات منضبطة غير قابلة للتصرف الفردي او الاستهلاك الوظيفي, وهذا ما اهلنا لقيادة المنتدى العربي الاستخباري في دورته الاولى.
الاصلاح السياسي ولجنة تحديث المنظومة
ليس بحكم الصدفة اختار الباشا لقاء الاعلاميين, عشية تقديم لجنة تحديث المنظومة السياسية مخرجاتها للملك, فالصدفة وحُسن النوايا, ليست في قاموس الجهاز قطعا, بل جاء التوقيت مثاليا, من اجل التأكيد على ان مخرجات اللجنة الملكية والتي حظيت بضمانة الملك, هي جزء من مهمة الجهاز القادمة, فالجهاز مضبوط على التوقيت الوطني ومنضبط بالاوامر الملكية, لذا افرد الباشا الجزء الاكبر في الحديث عن شكل الدولة في المئوية الثانية, وضرورة تحقيق الحكومة البرلمانية, ليس على قاعدة الملكية الدستورية, بل ضمن فقه تحميل الحكومة ولايتها العامة ومسؤوليتها امام الشعب الاردني, واول خطوة , هي دعم الاحزاب البرامجية وصولا الى برلمان قائم على التعددية السياسية, فالجيل الجديد ومفرداته ليست خاضعة لنظرية الفراغ, بل لنظرية الامتلاء الفكري, وهذه مهمة الاحزاب الوطنية, فالطبيعة لا تقبل الفراغ, وان يقوم البناء الحزبي الوطني بهذه المهمة, خير من ترك الشباب لعوالم مجهولة محكومة بادوات غير محلية او وطنية.
لم يترك الباشا اللقاء الاول وغير المسبوق, يمر دون التركيز على مهمات قادمة للجميع, وليس الجهاز وحده, فحالة السوداوية التي تستشري في البلاد يجب مجابهتها, ليس على قاعدة ابر التخدير, بل بالمكاشفة والشفافية ووضع الشعب بصورة الاجراءات والقرارات, فالمسؤولية تستوجب المسائلة, وعلى الجميع ان يدرك ان هذه الدولة تقوم بمهمات كبيرة رغم شح الموارد, لكنها بالعزيمة وبادوات المواجهة الناعمة والخشنة, عبرت الازمات وستعبر, فالدولة قوية والجهاز يمتلك من القوة والمنعة ما يجعل الاردنيين ينامون بعمق واستقرار.
ادوات كثيرة يملك الجهاز مفاعيلها وادوات يملك تقديم النصيحة والمعلومة, فالتركيز على ادوات الاصلاح الناعمة مثل المناهج والثقافة والدراما, لا تغيب عن بال الجهاز ومديره, لكنها حاضرة في نصائح الجهاز لصانع القرار, ويبدو ان خبرة الباشا واسعة في المضمار الثقافي والادبي, بحيث اجاب على تساؤلات القوة الناعمة, بمعرفة ورؤيا تكشف ان الرجل محاط بثقافة ذاتية وعناصر خبيرة تدرك ضرورة توظيف كل عناصر القوة الناعمة في مفهوم الامن الشامل.
الاقليم والجوار السوري والعراقي
اذا كان الظرف الداخلي هو الاساس, فإن الاقليم والجوار كان حاضرا, وفق نظرية الامن السياسي الاحترافيةالتي يتقنها الجهاز, فهو يمتلك معرفة وعلاقات على المستوى الامني مع الجوار العراقي والسوري على وجه الحصر, حتى في اتون البرود السياسي مع الجار السوري, فحدودنا الشمالية لا تخضع لمفهوم التوقع او لثقافة الاجتهاد, بل وفق نظرية القياس القائمة على المعرفة والاشتباك مع الواقع السوري, الذي بات محكوما للنظام السوري, وفقه الواقع والمصلحة الاردنية العليا هي التي تحكم منهجية الجهاز, فالاردن اليوم على ابواب مرحلة خاصة في حياة الدولة بعد زيارة الملك للولايات المتحدة, وتشكيل الحلف الثلاثي مع مصر والعراق, فهذه البدائل السياسية محمية بسياج امني قادر على تحييد الارهاصات او العمليات الارهابية خارج العمق الاردني, وللانصاف, فإن واجب كل اردني ان يفخر بما تقوم به اجهزتنا الامنية والعسكرية لحماية الحدود وتحييد الارهاب خارج الجغرافيا الاردنية.
الموقف من العراق واضح وجلي, فنحن نمتلك علاقات تحالفية مع الاشقاء هناك, والان يجري اعادة توضيب العلاقة الاردنية السورية على اساس المصالح الاردنية والسورية, ولكن بما يحفظ قيم الدولة الاردنية, التي ما اعتادت اغلاق الابواب في وجه من يطلب اللجوء, او اعادة من لجأ, فإعادة المعارضة السورية قسرا غير مطروح اساسا, ونحن احتضنا المعارضة في الاردن لكننا لم نتبناها, وهذه قاعدة اساسية اردنية ولن تتغير, ولذلك لا نخشى اي اثر او تأثير, فنحن نحافظ على قيمنا الاصيلة بعدم التدخل في شأن الاخرين.
اللقاء لا يمكن حصره او اختزاله في تحليل واحد او مادة صحفية واحدة, فهو ورشة عمل وطنية اكثر منها لقاء صحفي قابل للنشر على غير عادة اللقاءات الامنية والعسكرية, وهذا بذاته مؤشر على انفتاح الدائرة واستجابة موضوعية للنهج الملكي الجديد, والاهم هو بداية عمل تشاركي من اجل ولوج المئوية الثانية باقتدار واصلاح تدريجي يوصلنا الى المناخات السياسية الامنة علىى حد وصف الباشا احمد حسني