مرايا – مهما كانت الأسباب التي دفعت الصهيونية إلى السير في المسارات التي اختارتها، فإن القضية الحقيقية اليوم هي أن إسرائيل استعمرت كل فلسطين التاريخية تقريباً، ويريدنا أولئك الذين استعمروا الخليل واستقروا فيها أن نصدق أنهم ما يزالون يتحدثون باسم دريفوس (الذي أعدمه الفرنسيون بسبب يهوديته) لكي يدّعوا لأنفسهم المكانة الأخلاقية العالية في علاقاتهم مع الفلسطينيين. إنهم يريدون أخذ رأس مال رمزي من حقبة أخرى وقارة أخرى، عندما كان اليهود أقلية وضحية عاجزة، ونشرها هنا والآن -عندما تكون إسرائيل قوة محتلة، وقوة عسكرية إقليمية عظمى، وإمبراطورية اقتصادية. وينطبق الشيء نفسه على اللاجئين الجدد من أوكرانيا الذين تقوم دولة إسرائيل الآن باستغلال محنتهم المأساوية، فتستخدمهم، من خلال توفير ملجأ آمن لهم، كسلاح في الصراع على الأرض.
* *
بالنسبة للاجئين اليهود الذين كانوا يصلون إلى مطار بن غوريون الإسرائيلي خلال الأسابيع العديدة الماضية هربًا من الحرب التي يشنها بوتين على أوكرانيا، فإن أي منزل ليس تحت القصف الروسي يمكن أن يكون ملاذًا آمنًا لهم. ولكن، بالنظر إلى خطط إسرائيل لإرسالهم إلى المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية المحتلة والنقب -حيث أُجبر الفلسطينيون، أو يُجبرون، على ترك منازلهم- فإن هؤلاء اللاجئين أنفسهم لا يعودون يلعبون دور الضحية وحده.
ويلخص هذا التوتر بطريقة مثالية قصة أكبر بكثير: قصة الصهيونية المكتوبة منذ أوائل القرن العشرين، وكيف ينتهي بها الأمر إلى استخدام الهدف النبيل المتمثل في إنقاذ الأرواح ومقاومة الاضطهاد إلى تبرير اضطهاد شعب آخر.
إنها قصة الكيفية التي يصبح بها المحرومون والضعفاء أنفسهم وكلاء أقوياء لنزع ملكية الآخرين وحرمانهم واضطهادهم؛ الكيفية التي يرى بها الأوروبيون ظهور اللاجئين اليهود وهم يركضون للنجاة بحياتهم، لكننا نحن الفلسطينيين نرى وجوه جنود ومستوطنين يستولون على أرضنا ومنازلنا.
ويجسد الوضوح الهائل المتمثل في مشاهدة لاجئ يتم تحويله على الفور- في غضون ساعات أو أيام قليلة- إلى مستوطن يتم نشره ليكون درعاً في حرب إسرائيل الحدودية والديمغرافية والجغرافية ضد مجرد وجود الفلسطينيين الأصليين بين النهر والبحر، الصورة الأكثر تعقيداً للموقف.
الحرب من أجل التحرير اليهودي
في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، كان المرء يحتاج إلى أن يكون في صدره قلب من الحجر حتى لا يتماهى مع معاناة اليهود في أوروبا. لم يكن من الضروري أن يكون المرء صهيونيًا حتى يعبر عن التعاطف مع اليهود الفارين من المذابح في “نطاق الاستيطان” (1)، على سبيل المثال، أو مع النقيب ألفريد دريفوس، الذي كانت إدانة الدولة الفرنسية الكاذبة له بتهمة الخيانة لكونه يهوديًا أحد المسببات التي جعلت ثيودور هرتزل يعقد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل في العام 1897. ولم تكن رسالة إميل زولا الشهيرة “أنا أتهم” J’accuse نابعة من الحماسة الصهيونية، في حين أن بيرنارد لازار، اليهودي الفخور الذي دافع عن دريفوس، لم يتبنَّ حل هرتسل “للمسألة اليهودية”.
جادل الكثيرون بأن الصهيونية لم ترفض في الواقع منطق المعادين للسامية الأوروبيين، مثل أولئك الذين اضطهدوا دريفوس، وإنما تبنوا بدلاً من ذلك منطقهم المركزي نفسه: يجب أن تكون الدول القومية نقية عرقياً وأن تنتمي إلى مجموعة عرقية قومية واحدة، تماماً كما ينتمي المنزل الخاص إلى مالك واحد. وقبلت الصهيونية المنطق الإقصائي الذي تتبناه القومية العرقية، معتقدة بأن الوقت قد حان لأن يحظى اليهود بوطن خاص بهم، وقد أصبحوا بفعلهم ذلك صُناع ضحية بدلاً من أن يكونوا هم في موضع الضحية.
إذا كنت تهتم بمعرفة الطريقة التي تتعامل بها الدعاية الإسرائيلية مع معاداة السامية وموضوع الضحية، فسوف يُغفر لك إذا اعتقدت أننا ما نزال نعيش في تسعينيات القرن التاسع عشر. ولكن، على العكس من هذا التشويه للواقع، فإن وضع الضحية ليس شيئًا ينتقل في الجينات ويتم تمريره في الحمض النووي للمجموعات العرقية. إنه، بالأحرى، حالة تاريخية طارئة، تخضع لعلاقات القوة ضمن ترتيبات وفترة سياسية واجتماعية واقتصادية معينة. وليست علاقات القوة الحاضرة في إسرائيل- فلسطين اليوم هي نفسها التي كانت قائمة في أوروبا في تسعينيات القرن التاسع عشر؛ لم يعد مستوطنو الخليل ورثة ألفرد دريفوس الضحايا المضطهدين والعاجزين.
كان من الممكن بلا شك الدفاع عن دريفوس ضد تضحية الدولة الفرنسية العنصري به ككبش فداء من دون الانضمام إلى خطاب قومي، والدفاع بدلاً من ذلك ضد معاداة السامية في حدود إطار ليبرالي للحقوق المدنية والسياسية. ولكن يمكن للمرء أن يجادل بأن هذه الحقوق الفردية ليست كافية، بالنظر إلى أن العديد من اليهود في أوروبا شعروا بأنهم يشكلون جماعة، وبالتالي لم يكونوا مستعدين لإخفاء هويتهم اليهودية أو التنازل عنها من أجل الحصول على جنسية متساوية. وكما قالت حنة أرندت ذات مرة: “عندما تتعرض للهجوم كيهودي، عليك أن تدافع عن نفسك كيهودي”.
ومع ذلك، ما يزال هذا الدفاع لا يعني الصهيونية بشكل تلقائي. لم تكن رؤى الحقوق الجماعية اليهودية متجانسة أبدًا. فقد سعى بعضها إلى تحصيل هذه الحقوق داخل أوروبا. وسعت أخرى بدلاً من ذلك إلى مغادرة أوروبا كجغرافيا، لكنها انضمت إلى تاريخها ومخططها المفاهيمي من مكان آخر، من خلال تبني صورة الدولة القومية الحديثة كما تم تصورها في أوروبا أثناء تنفيذ مشروعها السياسي خارج حدودها؛ أو بشكل أكثر صراحة: أن تصبح أوروبية “خارج” أوروبا. ومن بين المجموعة الأخيرة، نظر البعض إلى الاستيطان في الأرجنتين أو أوغندا، بينما أصر آخرون على الاستقرار في فلسطين- إما سعياً وراء الازدهار الثقافي الذي عاشته في ظل الإمبراطورية العثمانية، أو في شكل قومية سياسية يهودية ذات سيادة.
ولكن، حتى أولئك الذين رأوا إنشاء جماعة قومية يهودية ذات سيادة في فلسطين كحل لمشكلة معاداة السامية الأوروبية لم يكونوا مجمعين على دعم إنشاء دولة قومية-عرقية لليهود؛ كان البعض منهم مستعدين لقبول دولة ثنائية القومية لليهود والعرب على حد سواء ضمن وحدة إقليمية واحدة. وحتى اليوم، عندما توجد دولة قومية يهودية حصرية على مدى أكثر من 70 عامًا، ما يزال هناك نقاش (نظري في الغالب) بين أولئك المستعدين لتقييد سيادة هذه الدولة على أجزاء من فلسطين وأولئك الذين يصرون على تأسيس السيادة اليهودية في جميع أنحاء فلسطين، وبذلك استيطان كل شبر منها -حتى وسط مدينة الخليل نفسه.
وبذلك، فإن القصة السياسية الداخلية للصهيونية هي، من نواحٍ عديدة، قصة خسارة أولئك الموجودين على ما يدعى يسار الطيف الصهيوني الحرب لصالح “اليمين”: الصهاينة الثقافيون، الذين آمنوا بمركز يهودي روحي (بدلاً من دولة) في فلسطين خسروا لصالح الصهاينة السياسيين الذين أصروا على السيادة وإقامة الدولة. وخسر القوميون من أنصار ثنائية القومية، الذين يؤمنون بالسيادة السياسية المشتركة مع الفلسطينيين، أمام أولئك الذين أصروا على دولة يهودية بحتة. وما يزال أولئك الذين يسعون إلى تقييد حدود إسرائيل، أو الذين نشير إليهم اليوم باسم “اليسار الصهيوني”، يستمرون في الخسارة أمام المتطرفين الإقليميين.
“حربنا الديموغرافية”
مهما كانت الأسباب التي دفعت الصهيونية إلى السير في هذه المسارات، فإن القضية الحقيقية اليوم هي أن إسرائيل استعمرت تقريبًا كل فلسطين التاريخية، ويريد أولئك الذين استعمروا الخليل واستقروا فيها منا أن نصدق أنهم ما يزالون يتحدثون باسم دريفوس لكي يدعوا لأنفسهم المكانة الأخلاقية العالية في علاقاتهم مع الفلسطينيين. إنهم يريدون أخذ رأس مال رمزي من حقبة أخرى وقارة أخرى، عندما كان اليهود أقلية وضحية عاجزة، ونشرها هنا والآن -عندما تكون إسرائيل قوة احتلال، وقوة عسكرية إقليمية عظمى، وإمبراطورية اقتصادية.
وينطبق الشيء نفسه على اللاجئين الجدد من أوكرانيا. الآن، تقوم دولة إسرائيل باستغلال محنتهم المأساوية، فتقوم باستخدامهم، من خلال توفير ملجأ آمن لهم، في الصراع على الأرض. ويبدو الأمر كما لو أن الدولة تقول لليهودي الأوكراني: “نحن مستعدون لإنقاذك طالما أننا نستطيع أن نستخدمك في حربنا الديموغرافية”. وهكذا، يصبح جسد اللاجئ اليهودي سلاحاً ضد الفلسطينيين.
لا يجب أن تعمينا حقيقة أن اليهود كانوا ضحايا أوروبا- مواطنين من الدرجة الثانية وموضوعاً للاضطهاد العنيف، وتعرضوا للإبادة الجماعية، وتحولوا إلى لاجئين- عن حقيقة أن دولة إسرائيل، في تبريرها لنفسها على أنها ملاذ لهؤلاء الضحايا، قد حولت الفلسطينيين إلى أمة من اللاجئين وعديمي الجنسية الذين بلا دولة، بينما تحتل، وتحاصر، وتمارس التمييز ضد الفلسطينيين الذين ظلوا في وطننا. وبالمثل، فإن حقيقة قيام الصهاينة بتجريد الفلسطينيين من ممتلكاتهم وطردهم واستعمار وطنهم لا ينبغي أن تلقي بظلالها على حقيقة أن اليهود عانوا لقرون تحت حكم القوى الأوروبية واحتاجوا إلى حل عاجل لاضطهادهم.
فقط عند إدراك هذين المنظورين والاعتراف بهما بالكامل، سنكون قادرين على بدء محادثة هادفة بين الشعبين -محادثة توفق بين ماضيهما ومستقبلهما.
*الدكتور رائف زريق: هو قانوني وباحث أكاديمي وكاتب فلسطيني اشتهر في مجال القضاء والقانون. ولد في قرية عيلبون في الجليل الأسفل الشرقي داخل في العام 1956. خبير في الفلسفة السياسية وفلسفة القانون، يركز في أبحاثه على مسائل تتعلّق بالنظريّة القانونيّة والسياسية وبقضايا المواطنة والهوية. وهو محاضر بارز في قانون الملكية والقانون العام في كلية القانون في أكاديمية “أو. إن. أو”، ومدير أكاديمي مشارك في مركز مينيرفا للعلوم الإنسانية في جامعة تل أبيب وكبير الباحثين المشاركين في معهد فان لير في القدس.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Where refugees become settlers
هامش المترجم:
(1) نطاق الاستيطان Pale of Settlement: منطقة في غرب الإمبراطورية الروسية تغيرت حدودها عبر الزمن، وُجدت من العام 1791 إلى 1917، وسُمح لليهود بالإقامة الدائمة فيها ومُنعت إقامتهم الدائمة أو المؤقتة خارجها غالبًا. وكان معظم اليهود ممنوعين من الإقامة في عدة مدن داخلها أيضًا. سُمح لعدد محدود من اليهود بالعيش خارجها.
رائف زريق – (مجلة 972+)