رانيا لصوي
مرايا – زمن ليس بالبعيد ذلك الذي كانت تجتمع فيه العائلة لمتابعة برامج المسابقات الثقافية لشريف العلمي، عمر الخطيب، ومن ثم جورج قرداحي…
كان هذا النمط الثقافي السائد في المجتمع وبرز في القنوات التلفزيونية حينها، حتى البرامج الترفيهية مثل الحصن وتلي ماتش كان لهم وقعهم على العائلة في متابعة جماعية خاصة يوم الجمعة من كل أسبوع.
الى أن سكن في ذاكرتي والأغلب معي مسلسل كاسندرا الذي قدم المسلسل المدبلج الفصيح وحقق صدى اجتماعي كبير جدا أفرغ الشوارع من المارة وسيارتهم وقت عرضه، ثم بدأت موضة المسلسلات التركية المدبلجة الغير فصيحة واجتاح مجتمعنا نور ومهند بتفاصيلهم الغير واقعيه والرومانسية البعيدة جدا عن الواقع، شكل هذا المسلسل ومن قبله كاسندرا بداية التغيير في الذوق العام العربي، ومحطة هامه في الانتقال من ثقافة المعلومة الى ثقافة نظام التفاهة.
الفيلسوف الدكتور آلان دونو في كتابة نظام التفاهة الذي يبحث بشكل نقدي فيما آلات وصيرورة الحداثة التي تحولت الى تضخم النزعة المادية والاستهلاكية للبشر، كيف تم تشيئ الانسان وتسليعه بدل العمل على تحريره وصون كرامته. وتحولت الثقافة الى مجرد صناعة للترفيه.
وعرف نظام التفاهة وهو سيطرة طبقة الأشخاص التافهين على جميع مناحي الحياة، وبموجبة تتم مكافئة الرداءة والتفاهة عوضا عن العمل الجاد والملتزم وهذه أصبحت سمة عصرنا اليوم.
من الحرفة الى الوظيفة
سيادة منطق الرأسمالية وتوحشها أحدثت تغييرها في مفعوم وجوهر العمل، تحول البشر الى مجرد آلات مسخرة لتحقيق فائض الإنتاج اللازم لاستمرار المنظومة الاقتصادية لرأس المال، انتقلنا من الحرفة التي عملناها بشغف وحب، الى الوظيفة الوسيلة لتوفير المال وتامين الاحتياجات الحياتية اليومية، والتي تضمن لنا البقاء، وتصب في مصلحة رأس المال في النهاية. بتنا نرى بائع صحف وكتب لا يكلف نفسه قراءتها، فهي مجرد دخل له.
استحسان الرداءة
قتل أي قيمة للتفكير، البحث عن الحلول، والاستمرار في توجيه التفكير الى الاهتمام بالأشياء السطحية والتفاهة حتى بالعلم، الفن والاقتصاد، تفتيت كل ما هو أصيل او اجتماعي، تيه الفكرة، جعل الشعوب تدريجيا تستحسن الرداءة، وساد الذوق المتدني في كل مكان، كما تسود ثقافة الاستهلاك أولا، ويبقى ان لا وجود للإبداع، المعرفة والقيم، ويطغى التافهين حياتنا. وهذا ما بتنا نراه على مواقع التواصل الاجتماعي التي باتت تمنح حق الكلام لأي من البشر ولو كان أحمقا. فأصبحت التفاهة الأفيون الجديد للشعوب.
في بداية جائحة كورونا كان السؤال الأبرز أمام البشرية: من سينقذها؟!
من سيقود العالم من أجل الخروج من هذه الكارثة؟ هل من تدفع البشرية عليهم المليارات من أجل تسجيل الأهداف لمباراة؟! أم أسطول تافهين مواقع التواصل الاجتماعي الذين خلقتهم الرأسمالية وأدخلتهم عوالم الثقافة والفن والابداع..؟
وكان هذا تحدي العودة الى العلم والعلماء أمام النظام الرأسمالي الذي أُجبر على اغلاق اقتصاداته العالمية من أجل انقاذ البشرية.
سمات نظام التفاهة تصدير التافهين للمجتمع على أنهم قدوة، وبالتالي انتاج المزيد من “الإنتاج الفارغ” والذي بدورة يقلد ليصبح تافها آخر.
يدعم التافهون بعضهم بعضا لتقع السلطة بيدهم، وكأنهم أفضل مثال للطيور على أشكالها تقع.
وربما علينا الانتباه هنا، الى أن التافه ليس شخصا كسولا، بل طموحا وجدا، يبني مستقبله على التفاهة.
الانتحار العقلي الذي بتنا رهائن له، وهو السباق على فضائح المشاهير، الألعاب، فاصبح لدينا أشخاص يجهلون معنى الحياة، ولا يهتمون الا بقشورها…
أسباب انتشار نظام التفاهة
تجارة التفاهة، سلعة أصبحت قيمتها تتجاوز قيمة الانسان، تمكن التافهين من تسويق بضاعتهم والترويج لها، بما يخدم نظام الرأسمالية ويحقق له أرباحه بغض النظر عن العقول الكبيرة، فتسيطر على المجتمعات.
إذا حققت رقم مشاهدات معين على اليوتيوب مثلا، بغض النظر عن المحتوى المقدم، تحصل على مقابل مادي لائق جدا، يتفوق على أي عمل على الواقع. وعدد ما تحققه من لايكات بات هو معيار تفوق التافهين على العلماء والاقتصاديين والمعلمين … وأصبحت هذه أبرز سمات النظام الاجتماعي.
مجانية التفاهة إذا كانت البضاعة المقدمة لك مجانية، اعلم إنك أنت البضاعة لا ما يتم تقديمه لك!
السياسة والتفاهة ترى الدول المستبدة الفكر والعلم عامل خطر مباشر عليها، تخشى نشوء جيل واع يواجها فكريا، وبالتالي توظف التفاهة وتستغلها كما فعلت في “الربيع العربي”. انشاء قنوات معنية بتقديم برامج تروّج لذات الفئة مثل برنامج رامز جلال مثلا والملايين التي تم انفاقها عليه، بدون قيمة أو فائدة.
برنامج برلمان شعب الذي كرس نتائج سيطرة التافهين على العالم وأوصل الشخصيات المشهورة الى هذا البرلمان الوهمي، والتي أول ما صدمت كان بمفاهيم الدين والأخلاق في المجتمع!
مسابقات ملكات الجمال، عجائب العالم، الموهب وافضل الأصوات.. كلها جعلت من ثقافة العولمة، عدد الأصوات واللايكات، تكريس مواقع التواصل الاجتماعي على حساب الواقع هي المعايير الأساسية للنظام الاجتماعي.
وعلينا ان لا ننسى المثل الصارخ على انتشار التفاهة في العالم وصول الرئيس الأمريكي ترامب الى حكم أكبر دول العالم، دون سابق معرفة او خبرة سياسية.
وبالقياس نجد أن هذه المعايير أصبحت هي السائدة في أدق تفاصيل الحياة الاسرية في المنزل، الطوعية في الأحزاب، الثقافية والفنية والابداعية، العلمية والعبقرية… باتت هي السمات الرائجة في العالم!
وفي رأينا انتشار ظاهرة التفاهة نتيجة حتميه للهروب من الواقع، الفراغ، فقدان الهوية والانتماء، والاغراءات المالية والنفسية الكبيرة على النفس البشرية. وكمال قال جمال الدين الأفغاني “التسفُـل أيسر من الترفع ” وعلينا ان نختار أين نكون في هذا النظام التافهة.
في حادثة أوردها الروائي ميلان كونديرا في رواية “حفلة التفاهة” قراتها خلال بحثي عن نظام التفاهة – لا أعرف حقيقتها فعلا- ولكنها تخدم فكرة المقال ومن واقع يساريتي سأسردها، مفادها، أن ستالين كان يقص على رفاقه حكاية مفادها أنه اجتاز 13 كيلومترًا في رحلة صيد، صادف خلالها 24 طيرًا فوق شجرة. ولأنه لم يكن يحمل سوى 12 طلقة، فقد قتل نصف العدد وقفل عائدًا إلى منزله، على بعد 13 كيلومترًا، لجلب 12 طلقة أخرى وقتل ما تبقى من تلك الطيور التي كانت لا تزال في انتظاره.
الملفت في حكاية ستالين ليس المبالغة، وإنما الغضب الذي أثارته عند رفاقه بسبب فهمهم لها على أنها كذبة كبيرة، بينما هي في الأصل مجرد مزحة تافهة لا يجب أن تُأخذ على محمل الجد. ولكن ما حدث هو العكس تمامًا، فقد أُخذت تلك الحكاية على محمل الجد بشكل لا بد أن يستدعي سؤالًا مثل: لِم لَم يخطر في بالهم أنها مجرد مزحة؟
السبب، ببساطة، هو سلطة ستالين التي حجبت عنهم هوية حكايته. بل، وفي مفارقة عجيبة، جعلتهم تافهين إن لم نقل أغبياء في نظره ونظر بعض قراء الرواية، ذلك أنها برهنت لا على اعتمادهم المطلق على ستالين في فهم الأمور وتفسيرها وتأويلها فحسب، وإنما على انصرافهم عن التفكير وعجزهم عن ممارسته في حضور الأخير وغيابه أيضًا. بمعنى أنهم لن يستطيعوا معرفة ما إذا كان يمزح أم لا، إن لم يقل لهم ذلك بنفسه.
وليس أبلغ من هذه القصة دليلًا على التفاهة التي يمارسها الفرد، أو يظهر بمظهرها، تحت تأثير السلطة، ما يتضح من هذه القصة، أو ما أسلفنا تفنيده سابقا بكتاب آلان دونو أن التفاهة تُفرض من أعلى، إما بالقوة غير المباشرة، أو عبر الضغط.