مرايا –
من سيوقف حكومة اليمين القومي المتطرف الاستيطانية الدينية القامعة للحريات، التي شكلها بنيامين نتنياهو؟ إن اتفاقيات الائتلاف الحكومي الإسرائيلي الجديد تنبئ بوقوع أسوأ سيناريو ممكن فحسب… إن شعبًا يشارك بقوةٍ تزداد ضراوةً يومًا بعد يوم في إخضاع شعب يعيش معه على الأرض نفسها، سينتهي حتمًا إلى الخضوع لشياطينه الخاصة، ليتحول بدوره إلى شعبٍ مستَعبَد. وليس هذا قانونًا، وإنما هو النتيجة المنطقية لسلسلة من الاختيارات المتعاقبة. ويشكل انحراف إسرائيل عن المسار جزءًا من دينامية عالمية لا تقتصر عليها، لكنها تواجَه بحشود متزايدة من الأفراد والجماعات في البلدان الأخرى، بينما تبدو الأمور في إسرائيل وأنها قد حُسِمَت.
* * *
في 30 كانون الأول (ديسمبر) 2022، في اليوم التالي من منح الكنيست ثقته للائتلاف الحكومي الجديد، دعت الأمم المتحدة “محكمة العدل الدولية” إلى التحقيق في “انتهاك إسرائيل الدائم لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير”. وكلمة “الدائم” هي المصطلح المناسب؛ إذ ضاعفت “الجمعية العامة للأمم المتحدة” إصدار القرارات التي تدين الاستيطان وغيره من الأعمال غير الشرعية التي ترتكبها إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ حزيران (يونيو) 1967. لكن ذلك كان من دون جدوى، حيث لم تتوقف الانتهاكات يومًا واحدًا.
وسيظل هذا القرار الأخير الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة (الذي أيدته 86 دولة، وعارضته 26 أخرى من بينها الولايات المتحدة الأميركية، والمملكة المتحدة وألمانيا، في حين امتنعت 53 دولة عن التصويت، من بينها فرنسا) غير ملزِم، شأنه في ذلك شأن القرارات السابقة. وبعد مرور ثلاثة أيام فقط على صدور القرار، أعلنت إسرائيل التهجير القسري لألف مواطن من قرى مسافر يطا في الضفة الغربية، من أجل إقامة “منطقة إطلاق نار” خاصة بالجيش.
مخاوف أميركية
حصلت إسرائيل لتوها على حكومة ذات توجه استيطاني هيوياتي أكثر تطرفًا من أي وقت مضى. فإلى متى وإلى أي مدى سيظل أنصارها، الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي، يوفرون الحماية لمثل هذه الدولة؟ أعربت وسائل الإعلام الأميركية عن قلقها بهذا الشأن، حيث تعتقد وكالة “أسوشيتد بريس” Associated Press أن الحكومة اليمينية الجديدة “تدفع إسرائيل إلى صدام وشيك مع أقرب حلفائها، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأميركية والمجتمع اليهودي الأميركي”.
وعلى الرغم من تهنئة الرئيس الأميركي، جو بايدن، لبنيامين نتنياهو مع تكرار تأييده لـ”حل الدولتين”، وتأكيد وزير خارجيته، أنتوني بلينكن، أنه “سيحكم على السياسات التي ستنتهجها (تلك الحكومة) وليس على الأشخاص”، إلا أن الائتلاف الحاكم في تل أبيب يثير قلق واشنطن. ولم تلقَ أولى الإشارات التي بعث بها نتنياهو استحسانًا. وترى الإدارة الأميركية أن سياسة إسرائيل تضعها في مأزق متزايد، لا سيما فيما يتعلق بمسألة أميركية داخلية؛ إذ يتصاعد انتقاد إسرائيل في أوساط الديمقراطيين الشباب يومًا بعد يوم. وأعلن أكثر من 300 حاخام أميركي عن قطع الاتصالات كافة مع أعضاء الحكومة الإسرائيلية الجديدة، تأكيدًا لإعراض المجتمع اليهودي الأميركي المتزايد عن سياسات إسرائيل، وهو موقف يتبناه اليهود الشباب في المقام الأول، الذين يرون أن سلوك “الدولة اليهودية” يصبح أكثر ترويعًا يومًا تلو الآخر. ولن تثنيهم التدابير التي اتخذها نتنياهو عن موقفهم. ويقول المؤرخ الأميركي إريك ألترمان: “يتساءل الأميركيون اليهود عما إذا كانت اللحظة قد حانت لإعلان استقلالهم عن إسرائيل” (1).
مع قدوم الحكومة الجديدة، أعاد رئيس الحكومة الإسرائيلية تفعيل منصب “وزير الشؤون الاستراتيجية”، الذي سيكون المسؤول الفعلي عن وضع سياستها الدولية، بينما تنحصر مهمة وزارة الخارجية في عمليات التملق الدبلوماسي. ويتولى تلك “الشؤون الاستراتيجية” رون ديرمر، رجل نتنياهو الوفي. وكان ديرمر هو الذي نظم في العام 2015، بالتواطؤ مع نواب جمهوريين، عملية إذلال باراك أوباما في الكونغرس الأميركي بشأن محاولة إبرام الرئيس الأميركي اتفاقية أميركية حول النووي الإيراني. وكان ديرمر من أشد مؤيدي ترامب حماسًا، وكان في ذلك الحين سفير إسرائيل في واشنطن.
تنازلات خطيرة لمعسكر المستوطِنين
من أجل ترسيخ سلطته في البرلمان الإسرائيلي والهرب من الملاحقات القضائية التي تطارده، ضاعف نتنياهو من التنازلات الممنوحة لـ”معسكر المستوطنين”. وبادر إلى تقديم أول تنازل مسبقًا، فبعد 55 عامًا من بدء احتلال الضفة الغربية، تم تجريد الجيش الإسرائيلي من سيطرته الكاملة على العمليات في الأراضي المحتلة كافة. ومُنِح وزير المالية الجديد، بتسئليل سومتريتش، الذي ينتمي إلى اليمين الأكثر تطرفًا، الصلاحيات المدنية كافة في الضفة الغربية -التي تتضمن توسيع الاستيطان في المقام الأول. وقد أثار ذلك قلق الجيش. وظهر رئيس الوزراء بمظهر الرجل الضعيف بحيث أنه إذا تخلى عنه جزء صغير من حلفائه المستوطنين المتدينين، فإن ذلك سيعني نهاية تحالفه.
تنبئ تنازلات نتنياهو بظهور صراعين يشكلان تهديدًا خطيرًا. يتمثل أولهما في اندلاع ثورة فلسطينية من جديد وعلى نطاق واسع، سواء كان ذلك في الأراضي المحتلة أو حتى داخل إسرائيل نفسها. وقد أعلن نتنياهو لتوّه عن توسيع الاستيطان في الضفة الغربية، ووعد بـ”عمليات ضم” مستقبلية لم يحدد تاريخها. ولا شيء في هذا جديد. ولكن، هل سيتمكن من السيطرة على اليميني المتطرف إيتمار بن غفير الذي عُين رئيسا للشرطة؟ ما السبيل إلى السيطرة على رجل كان على مدار حياته المهنية رمزا للعنف القائم على العنصرية؟ بطبيعة الحال، يجب أن يتوقع الفلسطينيون من حاملي الجنسية الإسرائيلية، وبالأخص أولئك الذين يسكنون في القدس الشرقية، قدوم الأسوأ. وتذكر صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية بأن بن غفير كان حتى وقت قريب “يخضع لمراقبة القسم اليهودي لمكافحة الإرهاب في جهاز الأمن العام الإسرائيلي (شين بيت)”. وبما أن قرينه، بتسئليل سموتريتش، سيكون مسؤولًا عن الشؤون المدنية في الضفة الغربية، يمكن أن يتوقع الفلسطينيون تدهورًا سريعًا في أوضاعهم المعيشية وقمعًا يوميًا أشد وطأة.
ثمة علاقات تربط كلا من بن غفير وسموتريتش بالدوائر الأكثر تطرفًا في المستوطنات اليهودية بالضفة الغربية. وتكتظ أدراج حلفائهما بمشاريع نزع الملكية ومصادرة أملاك السكان الفلسطينيين (خاصةً الأراضي). وبوصول بن غفير وسموتريتش إلى السلطة، وصل شعور المستوطنين بالإفلات من العقاب إلى أعلى مستوياته، وهو ما يثير المخاوف من ارتفاع وتيرة الاعتداءات التي كانت متكررة بالفعل ضد الفلسطينيين (والإسرائيليين الذي جاؤوا لدعمهم). وبمجرد تولي بن غفير منصبه، سارع إلى اقتحام ساحات المسجد الأقصى للكشف عن نواياه.
على الفور، أعرب أعضاء في هيئة أركان الجيش الإسرائيلي عن مخاوفهم من اندلاع ثورة جديدة في صفوف الشباب الفلسطيني. وأفصح رئيس هيئة الأركان، أفيف كخافي، الذي أنهيت فترة ولايته، عن قلقه لنتنياهو. وعبر موجات الراديو، قال الجنرال نيتسان ألون، قائد فرقة الضفة الغربية السابق (من العام 2009 إلى العام 2012) صراحةً: “قد أصبح الوضع في يهودا والسامرة اليوم أكثر صعوبة مما كان عليه حين كنت أخدم هناك”. إن منح السلطة لبن غفير وسموتريتش هو “أمر جنوني. إنهما يسعيان إلى نشر الفوضى في الأراضي الفلسطينية على نحوٍ خبيث من دون قرار رسمي. أعتقد أن هذه الحكومة تحاول أن تقودنا إلى هذا السيناريو”. وفي تلك الأثناء، حصل الجيش على تعهد شفهي بعدم اتخاذ أي قرارات من دون موافقته المسبَقة. ولكن، مع أشخاص مثل نتنياهو وبن غفير وسموتريتش، لا تُلزِم الوعود سوى من يصدقها.. وبالفعل، تقدم المساعدان بمشروع قانون يلزم أعضاء هيئة أركان الجيش كافة بفترة انتظار مدتها عشر سنوات قبل التقدم إلى منصب سياسي (مدتها حاليًا ثلاث سنوات). والهدف هو إبعاد الجنرالات المتقاعدين عن مراكز الحكم.
تهديدات للديمقراطية
التهديد الآخر الذي يلوح في إسرائيل مع قدوم الحكومة اليمينية الجديد يتصل بالصعيد الداخلي، ويتعلق بالإصلاحات العميقة التي أقرها نتنياهو. ويتمثل الأول في إضعاف صلاحيات المحكمة العليا الإسرائيلية، حيث يمكن للبرلمان إلغاء قراراتها، وتكون للنواب سلطة التحكم في طرق تعيين أعضائها. ويتيح ذلك إمكانية التصويت على النصوص التي رفضتها المحكمة العليا لعدم مطابقتها “للقوانين الأساسية” (عددها 14، قانونًا وتعد بمثابة دستور للبلاد). وهناك اعتماد “خطة القانون والعدالة لتعديل النظام القضائي وتعزيز الديمقراطية الإسرائيلية”. وهو ما يعني، وفقًا لمعارضي نتنياهو، تراجع الديمقراطية بشكل جذري. وتشمل هذه الخطة على وجه الخصوص (والقائمة أدناه غير شاملة):
– زيادة الإعانات الحكومية للمدارس الدينية، وتقليص المواد الإجبارية فيها (الرياضيات، والعلوم، واللغة الإنجليزية، والتاريخ وما إلى ذلك) لصالح التربية الدينية؛
– تعيين عضو كنيست منتخب من اليمين المتطرف، آفي ماعوز، مسؤول عن المناهج الدراسية. ويُعرف الرجل بكراهيته للمثليين، (مجتمع الميم)، وللنضال النسوي؛
– منح الشركات والمستشفيات والأفراد الحق في رفض البيع والإيجار لأفراد من “مجتمع الميم” أو الاتجار معهم (امتدادًا للرفض الذي يمارَس بالفعل ضد “العرب” بشأن تأجير أو بيع مسكن).
ومن المنتظر أيضًا تعديل “قانون العودة” اليهودي ليصبح شديد التقييد. حتى الآن، كان الحصول على الجنسية متاحًا لأي شخص له جد أو جدة يهوديان. بيد أن المقترح الجديد ينص على تطبيق القانون التلمودي (المعروف باسم “الهلاخة”)، الذي بموجبه تنتقل اليهودية من الأم وحدها. وبتطبيق قاعدة كهذه، سيفقد ثلث اليهود الذين وُلدوا في الاتحاد السوفياتي، إضافة إلى نسبة كبيرة من اليهود الأميركيين، يهوديتهم في نظر الحاخامية الكبرى، مثل اليهود الذي وُلدوا لأم تحولت إلى اليهودية على أيدي حاخامات يقال عنهم “إصلاحيون”، وهي ممارسة متعارف عليها في الولايات المتحدة الأميركية. وهكذا سيفقد هؤلاء الأميركيون على الفور هويتهم اليهودية، وإمكانية أن يصبحوا مواطنين إسرائيليين إذا ما أرادوا ذلك. ولا يثير ذلك تعاطف الفلسطينيين كثيرًا، وهم المحرومون من أي حق في العودة منذ ثلاثة أرباع قرن. لكن غالبية اليهود الأميركيين يرون في هذا المقترح ازدراءً، خاصةً الشباب منهم: تظهر استطلاعات الرأي أن القطاع الأكبر في الشباب اليهود الأميركيين يعتبر إسرائيل دولة فصل عنصري، بينما حقق بن غفير أكبر انتصار له بين فئات الشباب الإسرائيلي.
ولن يصادق الكنيست بالضرورة على تلك الإصلاحات. فقد أعلن رؤساء بلديات الكيبوتسات الكبرى بالفعل رفضهم التعاون مع آفي ماعوز في مجال التعليم. ولكن بالنسبة للجزء الأكبر منها، يتمتع نتنياهو بأغلبية تتيح له تمريرها. ويعتقد أغلب المحللين الإسرائيليين أن المجتمع على وشك أن يشهد تغييرات خطيرة من شأنها تقويض الحقوق الديمقراطية لصالح أوساط المتدينين والأكثر فسادًا. وكان الكنيسيت الإسرائيلي قد مرر، قبل يومين من إعلان تشكيل الحكومة الجديدة، تشريعًا يسمح للحاخام آرييه درعي -أحد الحلفاء الانتخابيين المفضلين لدى رئيس الوزراء- بشغل حقيبة وزارية على الرغم من إدانته بالاحتيال الضريبي. ومن الواضح أن نتنياهو لن يكون لديه ما يخشاه كثيرًا من هذا البرلمان في المستقبل.
في إسرائيل، تتصاعد المخاوف بشأن الإكراه الديني وتآكل الديمقراطية. وبالنسبة لموقع “مجلة 972+” الإلكتروني، إذا كانت “الحملة الصليبية اليمينية المتطرفة ضد الليبرالية العلمانية تثير معارضة كبيرة في إسرائيل، فإنه لا يمكن فصلها عن توجه الدولة المعادي للفلسطينيين”. فكلما هوى المجتمع الإسرائيلي في الهوياتية المحمومة، زاد وعي أولئك الذين يختارون المقاومة بحقيقة أن المخرج من الأزمة لن يتم من دون خوض نضال مشترك مع الفلسطينيين. أما عن اليسار الصهيوني الذي ينوي الحفاظ على المعايير الديمقراطية مع قبول أيديولوجية هوياتية، فهو يختفي تدريجيًا من الساحة السياسية، كما أظهرت الانتخابات الأخيرة.
“يجب أن تنتهي استثنائية الغرب لإسرائيل”
في تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 2018، تقدم نائبان إسرائيليان من اليمين التطرف بمشروع قانون ينص على “عدم جواز استجواب أي جندي كمشتبه به، وتحصينه ضد أي ملاحقات قضائية، بسبب فعل ارتكبه أو أمر أصدره أثناء أداء واجبه”. وبعبارة أخرى، يتعلق الأمر بشرعنة الجريمة في القانون العسكري. ولم تجرِ قط مناقشة هذا النص في جلسةٍ برلمانية عامة، ولكن في تشرين الأول (أكتوبر) 2022، طُرِح مشروع قانونٍ مماثل، وقعه 23 نائبًا، من بينهم ثمانية أصبحوا وزراء أو نوّاب وزراء في حكومة نتنياهو الجديدة.
هذا ما آلت إليه الأمور. والآن، ينتظر جو بايدن وأنتوني بلينكن إصدار حكمهما بناءً على أداء الحكومة، بينما يطالب اليسار الإسرائيلي المعارض للاستيطان مرةً أخرى القوى الغربية بإنهاء سياسة الإفلات الممنهج من العقاب المتبعة مع الحكومة الإسرائيلية. ويقول ميخائيل سفارد، أحد أهم المدافعين عن حقوق الفلسطينيين في إسرائيل: “مع تصاعد جرائم الفصل العنصري، يجب أن تتوقف استثنائية الغرب لإسرائيل”. ويتشارك التقدميون الإسرائيليون هذا الشعور: من دون ضغط ملح وحازم من حلفاء إسرائيل، لن يتمكن المجتمع الإسرائيلي، العالق في انتصاراته الاستيطانية، من تجنب الأسوأ الذي يسير نحوه بخطى حثيثة.
* * *
إسرائيل، الهروب إلى الأمام نحو الأسوأ
عزرا ناهماد
مسيرة إسرائيل، كيف نعرفها ونفهمها؟ سقوطها في الهاوية عنيد ومثابر، يمتد على مدار عقود عدة، ويشكل نموذجًا متفردًا. لنأخذ دولًا أخرى مجاورة مثل إيران أو سورية: هناك جماهير تناضل من أجل تجنب خراب بلادها، وعلى استعداد للتضحية بالأرواح في سبيل ذلك. أما في إسرائيل، فتطالب الغالبية العظمى بتحقيق هذا الخراب، وأصبح باقي الشعب غارقًا في اللامبالاة أو التخاذل.
ربما علينا أن نتفق أولاً حول مسار إسرائيل المُهلِك. يتمتع هذا البلد بلا شك بقدرة عسكرية وتكنولوجية عظيمة. لكن حياته اليومية ومناخه الاجتماعي والثقافي قاتمان بقدر إبهار تقنياته العسكرية أو الشرطية، وكأنما تسير في اتجاه معاكس. تعتمد كل من القدرة العسكرية والقدرة التكنولوجية، وهما متداخلتان بشكل وثيق، على تعميق مأساة الشعب الفلسطيني. ومع مرور الوقت، لم يستطع هذا الشكل من التقدم الإسرائيلي المضي قدمًا إلا بنهب الأراضي والقمع العسكري وتشديد القبضة الأمنية والتخريب. إن ما يصنع مجد إسرائيل لا يتحقق سوى بتنظيم وتصنيع التكنولوجيات الإجرامية المطورة ضد الفلسطينيين والتربح منها.
نشأة هذا التوجه الدولاتي هو ظاهرة مبهرة ومخيفة في الوقت ذاته. يمكن القول، بتشاؤم، إن الفضل في جميع المزايا التي تتمتع بها إسرائيل يجب أن يعود في نهاية المطاف إلى الفلسطينيين، الذين لولاهم ما كانت هذه الدولة ما هي عليه اليوم.
دعونا نعُد إلى مسألة أساسية، وهي صحة هذا البلد. إن العنف الذي يمارسه المستوطنون والجيش ضد الفلسطينيين، والقوانين العنصرية، تقع بشكل أساسي في الضفة الغربية، على الرغم من أن عرب إسرائيل يخضعون هم أيضًا لعدد من القوانين التمييزية. وعلى مر السنين، شوهت تلك الجرائم أخلاق وذكاء وثقافة إسرائيل. ولهذا السبب تحديدًا، شكل هذا البلد حديثًا حكومةً تضم رجالًا فاسدين وعنصريين، ووزراء يدعون صراحةً إلى إقامة دولة ثيوقراطية، والفصل بين الرجال والنساء في الأماكن العامة، وإقصاء المثليين، وتعزيز قوانين الفصل العنصري ضد كل ما يبتعد عن شكل من أشكال اليهودية التي تتسم بجنون العظمة.
إن موافقة الإسرائيليين على المشاريع السياسية المطروحة يدل على افتقادهم المتزايد إلى المعايير. لقد هجر حس الدعابة والسعادة والفضول أو الاهتمام بالآخرين الثقافة الإسرائيلية، واستُبدِلت بتوحد يشوبه الاكتئاب والضيق والمظلومية، وبثقافات فرعية حافلة بالخرافات. يقال إن غالبية الشباب يؤيدون أطروحات الحكومة الإسرائيلية الجديدة. وربما يرجع ذلك بشكل كبير إلى مشاركتهم في الجرائم الجماعية التي تمارَس ضد الفلسطينيين أثناء أداء خدمتهم العسكرية، لكن التلقين وغرس العقيدة يبدأ في المدرسة منذ سن مبكرة. ويزعم الخطاب الرسمي أن الجرائم التي تُمارَس في الضفة الغربية، وهي بمثابة الأرض المحرمة بالنسبة للإسرائيليين، لا تؤثر على الشعب داخل الدولة. ولكن تبقى حقيقة أن صدمات الإسرائيليين، الذين يتعلمون الإجرام منذ نعومة أظافهم، وهي صدمات مكبوتة ومسكوت عنها لكنها حقيقية، تشير إلى عكس ذلك. هذا التحول نحو الوحشية هو بالأحرى انهيار يرغب فيه أكثرية الموطنين، بمنطق التفوق الفردي المسيطر عليهم منذ عقود، ليكون هروبًا إلى الأمام نحو الأسوأ، ويغذي مشاريع تزداد ظُلمةً في النفوس الضالة.
إن شعبًا يشارك بقوة تزداد ضراوةً يومًا بعد يوم في إخضاع شعب يعيش معه على نفس الأرض، ينتهي حتمًا إلى الخضوع لشياطينه الخاصة، ليتحول بدوره إلى شعبٍ مستَعبَد. وليس هذا قانونًا، وإنما هو النتيجة المنطقية لسلسلة من الاختيارات المتعاقبة. ويشكل انحراف إسرائيل عن المسار جزءًا من دينامية عالمية لا تقتصر عليها، لكنها تواجَه بحشود متزايدة من الأفراد والجماعات في البلدان الأخرى، بينما تبدو الأمور في إسرائيل وأنها قد حُسِمَت.
*سيلفان سيبيل: صحفي وعضو سابق في رئاسة تحرير جريدة “لوموند” ومدير سابق لمجلة “كوريي أنترناسيونال”، ومؤلف كتاب “المطمورون، المجتمع الإسرائيلي في طريق مسدود” من منشورات لا ديكوفيرت 2006.
*عزرا ناهماد: كاتب ولد قرب الناصرة، ويعيش ويعمل في باريس. له تحقيقات صحفية عدة عن إسرائيل التي يزورها من حين الى آخر، صدرت له مجموعة “ثلاثية الصور” من منشورات كتب بيبيروني في برلين، وهو ناقد في مجال الفنون. ترجمت هذا المقال المشترك من الفرنسية دينا علي.
سيلفان سيبيل؛ وعزرا ناهماد* – (أوريان 21) 10 كانون الثاني (يناير) 2023