تفيد تقارير الأمم المتحدة المتخصصة بمتابعة تهديد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) التي يتم إعدادها من قبل هيئات اممية ، من بينها “فريق الدعم التحليلي ورصد الجزاءات” الذي يعمل بموجب قراري مجلس الأمن رقم 1526 (2004) و2253 (2015) ، انه على الرغم من هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية في عام 2019 بسقوط آخر معاقله في سوريا ، إلّا أن الأحداث على مدى السنوات اللاحقة ، تُظهر أن التهديد الذي يشكله التنظيم لا يزال قائما خاصة في قارة افريقيا.
وتركز خلاصة هذه التقارير بحسب ما رصدت عمون من أبحاث ودراسات، على طبيعة التهديد الذي تتعرض له القارة من قبل تنظيم داعش الإرهابي، الذي باتت فروعه تنشط في مناطق مختلفة من افريقيا ، حيث يواصل التنظيم بنجاح استغلال ديناميكيات الصراعات المحلية وأوجه الهشاشة في المجتمعات والدول المستهدفة ، وأصبحت هذه الديناميكية فعالة في المناطق غير الخاضعة للسلطة الكافية من قبل الحكومات المحلية ، بشكل يسمح للتنظيم بمزيد من التوسع ، والوصول لمصادر تسليحية اخطرها الأنظمة الجوية بدون طيار.
ويستمر التنظيم باستخدام مساحات عبر الإنترنت لنشر أيديولوجيته ودعايته، كما أن المقاتلين الأجانب الذين سافروا سابقا إلى العراق وسوريا ، تمكنوا من اكتساب خبرات في ميدان المعارك، وهم منذ ذلك الحين يعودون إلى بلدانهم أو يتجهون الى بلد ثالث ، ويثبت هؤلاء العناصر أنهم يتمتعون بقدرات متطورة.
ووفق مصادر مختلفة ، فان بدايات انتشار التنظيم في إفريقيا كانت قد ظهرت أولا في مناطق حوض بحيرة تشاد ، فبينما كانت أنظار العالم كله متجهة نحو العراق وسوريا ، كانت داعش تحصل على مبايعة “جماعة أهل السنة للدعوة والجهاد” في نيجيريا ، المعروفة إعلاميا باسم “بوكو حرام”، وبعد مرحلة من التصفيات الداخلية لبسط سلطة داعش على الجماعة ، ظهر ما بات يُعرف بـ“ولاية غرب أفريقيا”، إضافة لولايات افريقية أخرى ، وبات التنظيم يتمدد في دول : مالي ، النيجر ، بوركينا فاسو ، نيجيريا ، واصبح يصدر ادبياته باللغتين الهوسا الافريقية واللغة العربية ، كما تظهر أناشيد الإصدارات ومحتواها باللغات المحلية في تلك البلدان ، ولوحظ أن جريدة “النبأ” التي يصدرها داعش أسبوعياً اصبحت تكرّس جلّ أخبارها ومقالاتها لمناطق تواجد التنظيم في افريقيا (الصومال، موزمبيق، الكونغو الديمقراطية، الكاميرون ، نيجيريا، تشاد، النيجر، ليبيا، مالي، بوركينا فاسو، بنين) وتتمتع قيادة داعش بالسلطة الحاسمة في أمور ولاياتها الأفريقية ، حتى لو حظيت هذه الولايات بقدر من الاستقلالية اللامركزية ، ويستبعد مختصون فرضية ان القارة السوداء كانت مجرد “قارب نجاة” للتنظيم بعد خسارته لخلافته في الشام والعراق ، ويؤكدون انها كانت هدفاً توسعياً مخططا له مسبقا ، بل ان هناك في (الأوساط الجهادية) من يعتبر أن ما يحصل في أفريقيا من تمدّد (للحركات الجهادية ) ترجمة لما يُعرف بـ “سُنّة الاستبدال” حيث “يُستبدل من تخلّى عن دينه بمن هم جاهزون للدفاع عنه” حسب المنطق الجهادي المتطرف.
وفي تصريحات سابقة ، يؤكد فلاديمير فورونكوف ، وكيل الأمين العام للأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب، انه على الرغم من هزيمة تنظيم داعش الإقليمية والخسائر التي منيت بها قيادته، فقد استمر يشكل تهديدا متصاعدا للسلم والأمن الدوليين ، وتستغل الفروع التابعة له ديناميكيات الصراع المحلية ، وهشاشة الحكم وعدم المساواة للتحريض والاستقطاب وتنفيذ الهجمات الإرهابية ، وتجنيد المتعاطفين وجذب الموارد ، وتلاحظ التقارير الأممية ان التنظيم تمكن من بناء هيكل داخلي لامركزي مرن يتمحور حول ما يسمى بـ “المديرية العامة للمحافظات” او الولايات و “المكاتب” المرتبطة بها ، بما يعني إدارة العمليات والتمويل الإرهابي في جميع أنحاء العالم ، ومن خلال هذا الهيكل ، تحرّض قيادة داعش أتباعها على تنفيذ الهجمات، وتحتفظ بتوجيه ومراقبة تدفق التمويل المالي كما اصبح التنظيم يستخدم العملات المشفرة ، وتشير تلك التقارير الى ان التنظيم يتوسع بشكل لافت في وسط وجنوب وغرب القارة الافريقية ، ففي أوغندا، وسّعت جماعة تابعة للتنظيم منطقة عملياتها إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية، فيما كثفت جماعة أخرى تابعة للتنظيم هجماتها في مقاطعة كابو ديلغادو في موزامبيق ،ومن شأن هذا التوسع ان يؤثر على البلدان الساحلية في خليج غينيا.
من جهته يفيد الباحث الدولي المختص في مجال الدراسات الأمنية ، مارتن إيوي ، ان 20 دولة على الأقل في أفريقيا تشهد حاليا نشاطا مباشرا لداعش ، فيما يتم استخدام أكثر من 20 دولة أخرى للخدمات اللوجستية، وتجميع الأموال والموارد ، ويقول إن من أبرز الأسباب التي تجذب التنظيم إلى أفريقيا هو مواردها الطبيعية، وحول ما يمكن للمجتمع الدولي القيام به، دعا إيوي مجلس الأمن إلى أن يكون أكثر مشاركة وانخراطا ، لكنه يستدرك أن المجلس بعيد جدا وقراراته لا تُنفذ في أفريقيا.
فيما يرى الباحث بمعهد واشنطن ارون زيلين ، ان داعش يحقق تقدمًا سريعًا في إفريقيا ، ويؤكد ان منطقة الساحل الافريقي باتت بؤرة ساخنة للتنظيم منذ ان اعاد السيطرة على الفرع المنشق من جماعة “بوكو حرام” في عام 2021 وخوضه معارك مع قوات الحكومة النيجيرية ، حتى اصبح يسيطر على مساحاتٍ شاسعة من الأراضي في شمال نيجيريا، ويضيف زيلين ان الجماعات الإرهابية حصلت على ميزةٍ جديدة تتمثل في سحب فرنسا لقواتها العسكرية من مالي واستبدالها من قبل حكومة مالي بمجموعة “فاغنر” الروسية غير الكفؤة ، ويؤكد ان المشكلات المُزمنة في افريقيا ، من حيث الافتقار إلى قدرة الدولة الفعّالة و المحسوبية العرقية وعدم كفاية البنية التحتية في المجتمعات المحلية ، ستظل تقدم بيئة ملائمة لنشاط داعش.
وعلى صعيد البيئات المحلية ، تفيد تقارير مختلفة ، ان النخب الحاكمة في العديد من الدول الافريقية ينظر اليها بعين الريبة من طرف قطاعات كبيرة من السكان بسبب الإقصاء العرقي والديني والاقتصادي ، فهذا النوع من الدول الهشة في إفريقيا تكون الحكومات فيها في وضع العاجز أمام المشاكل الإنسانية والقضايا العالقة بين الجماعات أو في المناطق المهمشة والطرفية ، ومن جهة أخرى، فإن اعتماد اقتصاديات تلك الدول بشكل كبير على الزراعة أو التعدين، يحول دون توفير وظائف كافية لشرائح واسعة من المجتمع ، ويمكن أن يشكل أي ارتفاع مفاجئ في أسعار المواد الغذائية أو جفافٌ حادٌّ أو فيضانٌ مدمرٌ اختبارًا قاسيًا للحكومات ، فمن حيث تفشل الحكومات تنطلق صراعات يمكن لها أن تمتد إلى دول أخرى تعيش نفس الظروف من الضعف والهشاشة.
وفي السنوات الاخيرة بات تنظيم داعش قادرا على تنفيذ الكثير من الهجمات في عديد من الدول الافريقية ويخوض مواجهات مع القوات الرسمية في تلك الدول، كما يخوض في نفس الوقت مواجهات ضارية مع غريمه البارز تنظيم القاعدة الذي يحقق هو الاخر توسعا تنظيميا موازيا في دول القارة، ويذكر ان اكبر عمليات التنظيم في افريقيا خلال العام الحالي 2023 وقعت في شباط الماضي في بوركينا فاسو حيث لقي حوالي 70 جنديا بوركينيا حتفهم في هجومين بشمالي البلاد قرب الحدود مع مالي ، وهذه أكبر حصيلة من القتلى سجلت إثر هجمات للتنظيم في هذا البلد.
جهود أردنية :
بادر الأردن في عام 2015 بعقد اجتماعات تنسيقية لمكافحة الإرهاب مع بعض الدول الافريقية في مدينة العقبة، وباتت تعرف هذه المبادرة الأردنية باسم ( اجتماعات العقبة ) وترأس جلالة الملك عبدالله الثاني عددا من مؤتمرات هذه المبادرة التي أصبحت تضم العديد من دول العالم ويشارك في اجتماعاتها عدد كبير من رؤساء الدول والحكومات والهيئات والمنظمات الدولية، ويتبنى الملك عبدالله الثاني رؤية واضحة في هذا المجال تتركز على ضرورة مواجهة الإرهاب بشكل شمولي مخطط له وعلى مستوى عالمي متكامل، وفي سنوات لاحقة انعقدت مؤتمرات اجتماعات العقبة في العديد من العواصم ، وكان اخر مؤتمر لها قد انعقد في حزيران 2023 في مدينة قرطبة الاسبانية ، برئاسة الملك عبدالله الثاني، والملك فيليب السادس ملك إسبانيا، وتركز البحث في المؤتمر حول دول غرب إفريقيا والساحل، وتمت مناقشة الجهود التي يتم بذلها حاليا للتصدي للإرهاب والتطرف وكيفية تعزيز التنسيق والتشبيك بين مختلف المبادرات في دول غرب إفريقيا للحد من انتشار الجماعات الإرهابية وتحجيم نفوذها على الأرض.
وشارك في جلسات هذا المؤتمر قادة ومسؤولون وممثلون عن مؤسسات أمنية وعسكرية من غانا، غينيا بيساو، موريتانيا، المغرب، رواندا، النيجر، غابون، ساحل العاج، توغو، نيجيريا، بنين، أستراليا، البرازيل، بلجيكا، كندا، قبرص، الدنمارك، فرنسا، اليونان، إيطاليا، اليابان، البرتغال، الولايات المتحدة الأمريكية، سويسرا، النرويج، هولندا، المملكة المتحدة، إضافة إلى ممثلين عن الاتحاد الإفريقي، والاتحاد الأوروبي، ومنظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والأمم المتحدة، فضلا عن مشاركة من منتدى الإنترنت العالمي لمكافحة الإرهاب.
ويذكر أن جولات سابقة من مبادرة “اجتماعات العقبة” عُقدت خارج الأردن، حيث استضافت إندونيسيا وألبانيا وهولندا ونيجيريا والولايات المتحدة الأمريكية، والجمعية العامة للأمم المتحدة، وسنغافورة، فعاليات هذه الاجتماعات بالشراكة مع المملكة.
وتهدف المبادرة الأردنية التي أطلقها جلالة الملك عام 2015، إلى تعزيز التنسيق والتعاون الأمني والعسكري وتبادل الخبرات والمعلومات بين مختلف الأطراف الإقليمية والدولية في الحرب على الإرهاب والتطرف.