مرايا –
الآن هو الوقت المناسب لأن تستخدم واشنطن نفوذها لمنع إسرائيل من التسبب بكارثة هائلة. إن نهج واشنطن الحالي يشجع إسرائيل على شن حرب خاطئة للغاية، واعدة بتوفير الحماية من عواقبها من خلال ردع الآخرين في الإقليم عن دخول المعركة وعرقلة أي جهود لفرض المساءلة من خلال القانون الدولي. لكن الولايات المتحدة تفعل ذلك على حساب مكانتها العالمية ومصالحها الإقليمية الخاصة.
* * *
في الصباح الباكر من يوم 13 تشرين الأول (أكتوبر)، أصدر الجيش الإسرائيلي تحذيرا إلى 1.2 مليون فلسطيني يعيشون في شمال غزة: يجب عليهم الخروج من المنطقة في غضون 24 ساعة قبل الشروع في غزو بري محتمل. وسيكون لمثل هذا الهجوم الإسرائيلي الهدف المعلن المتمثل في القضاء على حماس كمنظمة، ردا على هجومها المفاجئ الصادم في 7 تشرين الأول (أكتوبر) على جنوب إسرائيل، حيث قتلت أكثر من 1.000 مواطن إسرائيلي واحتجزت أكثر من مائة رهينة.
وبدا شن حملة عسكرية إسرائيلية برية حتميا منذ اللحظة التي اخترقت فيها حماس الغلاف الأمني المحيط بقطاع غزة. وأيدت واشنطن الخطط الإسرائيلية بشكل كامل، خاصة بالإحجام عن حث إسرائيل على ضبط النفس. في بيئة سياسية محمومة، كانت أعلى الأصوات في الولايات المتحدة هي تلك التي تحث على اتخاذ إجراءات متطرفة ضد حماس. وفي بعض الحالات، دعا المعلقون إلى القيام بعمل عسكري ضد إيران بسبب رعايتها المزعومة لعملية حماس.
لكن هذا بالضبط هو الوقت الذي ينبغي أن تفكر فيه واشنطن برأس أقل سخونة وبطريقة أكثر هدوءا، وأن تنقذ إسرائيل من نفسها. سوف يكون الغزو الوشيك لغزة كارثة إنسانية، وأخلاقية، واستراتيجية. ولا يقتصر الأمر على أنه سيضر بشدة بأمن إسرائيل على المدى الطويل ويكبد الفلسطينيين تكاليف بشرية لا يمكن سبر غورها فحسب، بل إنه سيهدد أيضًا المصالح الأميركية الأساسية في الشرق الأوسط وأوكرانيا، ويؤثر على منافسة واشنطن مع الصين على نظام المحيطين الهندي والهادئ. وحدها إدارة بايدن -التي توجه النفوذ الفريد للولايات المتحدة والدعم الوثيق الواضح من البيت الأبيض لأمن إسرائيل- يمكنها الآن أن توقف إسرائيل عن ارتكاب خطأ كارثي. الآن، بعد أن أظهرت تعاطفها مع إسرائيل، يجب على واشنطن أن تتحول نحو مطالبة حليفها بالامتثال الكامل لقوانين الحرب. يجب أن تصر على أن تجد إسرائيل سبلاً لخوض قتال مع حماس لا ينطوي على التشريد والقتل الجماعي للمدنيين الفلسطينيين الأبرياء.
حالة غير مستقرة
قوض هجوم حماس مجموعة الافتراضات التي عرفت الوضع الراهن بين إسرائيل وغزة منذ ما يقرب من عقدين من الزمن. في العام 2005، انسحبت إسرائيل من جانب واحد من قطاع غزة، لكنها لم تنه احتلالها المستمر بحكم الأمر الواقع. وقد احتفظت بالسيطرة الكاملة على حدود غزة ومجالها الجوي، واستمرت في ممارسة رقابة مُحكمة (بالتعاون الوثيق مع مصر) من خارج المحيط الأمني على حركة سكان غزة، وكهربائها وأموالها. وكانت حماس قد تولت السلطة على القطاع في العام 2006 بعد فوزها في الانتخابات التشريعية، وعززت قبضتها عليه في العام 2007 بعد فشل جهود دعمتها الولايات المتحدة لاستبدال الحركة بـ”السلطة الفلسطينية”.
منذ العام 2007، حافظت إسرائيل وحماس على ترتيب غير مستقر. ووفق هذا الترتيب، تواصل إسرائيل فرض حصار خانق على غزة، والذي يقيّد بشدة اقتصاد القطاع ويفرض تكاليف بشرية كبيرة، بينما يعمل الترتيب أيضًا على تمكين حماس من خلال تحويل جميع الأنشطة الاقتصادية إلى الأنفاق والأسواق السوداء التي تسيطر عليها. وخلال اندلاع الصراعات المتكرر –في العامين 2008 و2014 ومرة أخرى في العام 2021 – قصفت إسرائيل على نطاق واسع المراكز الحضرية المكتظة بالسكان في غزة، ودمرت البنية التحتية، وقتلت آلاف المدنيين بينما أضعفت قدرات حماس العسكرية، محدِّدة بذلك الثمن الذي سيتم دفعه مقابل الاستفزازات. لكن كل هذا لم يفعل شيئا يذكر لتخفيف قبضة حماس على السلطة في القطاع.
مع استمرار هذا الوضع، وصل القادة الإسرائيليون إلى اعتقاد بأن هذا التوازن يمكن أن يستمر إلى أجل غير مسمى. اعتقدوا أن حماس قد تعلمت الدروس من المغامرات السابقة وما نجم عنها من الردود العسكرية الإسرائيلية غير المتناسبة إلى حد كبير، وأن حماس أصبحت راضية الآن عن الحفاظ على حكمها في غزة، حتى لو كان ذلك يعني السيطرة على استفزازات الفصائل المسلحة الأصغر، مثل “الجهاد الإسلامي الفلسطيني”. كما أن الصعوبات التي واجهها جيش الدفاع الإسرائيلي في هجوم بري قصير شنه في العام 2014 خففت من طموحه إلى محاولة المزيد. ورفض المسؤولون الإسرائيليون الشكاوى الدائمة بشأن الآثار الإنسانية التي يخلفها الحصار. وبدلاً من ذلك، كان ذلك البلد راضيًا عن منح غزة أولولية منخفضة، مع تسريع تحركاته الاستفزازية المتزايدة لتوسيع مستوطناته وسيطرته على الضفة الغربية.
في المقابل، كانت لدى حماس أفكار أخرى. وعلى الرغم من أن العديد من المحللين عزوا استراتيجيتها المتغيرة إلى النفوذ الإيراني، إلا أنها كانت لدى حماس أسبابها الخاصة لتغيير سلوكها ومهاجمة إسرائيل. كانت مناورة العام 2018 لتحدي الحصار من خلال التعبئة الجماهيرية اللاعنفية -المعروفة شعبيًا باسم “مسيرة العودة الكبرى”- قد انتهت بسفك دماء هائل عندما فتح الجنود الإسرائيليون النار على المتظاهرين. وعلى النقيض من ذلك، اعتقد قادة حماس في العام 2021 أنهم حققوا مكاسب سياسية كبيرة في الجمهور الفلسطيني الأوسع من خلال إطلاق الصواريخ على إسرائيل خلال اشتباكات عنيفة في القدس بسبب مصادرة إسرائيل منازل الفلسطينيين والاستفزازات التي مارسها القادة الإسرائيليون في مجمع المسجد الأقصى: أحد أقدس المواقع الإسلامية، الذي يريد بعض المتطرفين الإسرائيليين هدمه لبناء معبد يهودي.
وفي وقت أقرب، أدى التصعيد المطرد للاستيلاء الإسرائيلي على الأراضي وهجمات المستوطنين المدعومة من الجيش على الفلسطينيين في الضفة الغربية إلى خلق جمهور غاضب ومعبأ، بدا أن الولايات المتحدة -والسلطة الفلسطينية المدعومة من إسرائيل- غير قادرتين وغير راغبتين في معالجة مظالمه. وربما بدت التحركات الأميركية العلنية للغاية للتوسط في اتفاق تطبيع إسرائيلي سعودي وكأنها إغلاق لنافذة الفرصة أمام حماس للتصرف بشكل حاسم، قبل أن تنقلب الظروف الإقليمية ضدها بلا هوادة. وربما دفعت الانتفاضة الإسرائيلية ضد الإصلاحات القضائية التي أجراها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو حماس إلى توقع مواجهة خصم منقسم ومشتت.
ما يزال من غير الواضح إلى أي مدى حفزت إيران توقيت أو طبيعة الهجوم المفاجئ. من المؤكد أن إيران زادت من دعمها لـحماس” في السنوات الأخيرة وسعت إلى تنسيق الأنشطة عبر “محور المقاومة” للميليشيات الشيعية وغيرها من الجهات الفاعلة المعارضة للنظام الإقليمي المدعوم من الولايات المتحدة وإسرائيل. ولكن، سيكون من الخطأ الفادح تجاهل السياق السياسي المحلي الأوسع الذي قامت فيه حماس بحركتها.
نقطة تحول
ردت إسرائيل في البداية على هجوم حماس بحملة قصف أكثر كثافة من المعتاد، إلى جانب حصار أكثر حدة، حيث قطعت عن القطاع الطعام والماء والطاقة. وحشدت إسرائيل احتياطياتها العسكرية، وجلبت حوالي 300 ألف جندي إلى الحدود، وهي تستعد لإطلاق حملة برية وشيكة. ودعت إسرائيل المدنيين في غزة إلى مغادرة الشمال في غضون 24 ساعة. وهذا مطلب مستحيل. وليس لدى سكان غزة مكان يذهبون إليه. فالطرق السريعة مدمرة، والبنية التحتية تحت الأنقاض، ولم يتبق سوى القليل من الكهرباء أو الطاقة، والمستشفيات ومرافق الإغاثة القليلة تقع كلها في المنطقة الشمالية المستهدفة. وحتى لو أراد سكان غزة مغادرة القطاع، فقد تعرض معبر رفح إلى مصر للقصف -ولم يظهر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي دلائل على استعداد لتقديم ملجأ ودي للغزيين.
يدرك سكان غزة هذه الحقائق. وهم لا يرون الدعوة إلى الإخلاء كبادرة إنسانية، وإنما يعتقدون أن نية إسرائيل هي تنفيذ “نكبة” أخرى: التهجير القسري للفلسطينيين الذي مارسته إسرائيل خلال حرب العام 1948. إنهم لا يعتقدون –ولا ينبغي أن يعتقدوا– أنه سيسمح لهم بالعودة إلى غزة بعد القتال. وهذا هو السبب في أن دفع إدارة بايدن نحو إنشاء ممر إنساني للسماح للمدنيين في غزة بالفرار من القتال كان فكرة سيئة بشكل فريد. بالقدر الذي يحقق فيه ممر إنساني أي شيء، فإنه سيكون تسريع إخلاء سكان غزة وخلق موجة جديدة من اللاجئين الدائمين. كما أنه سيقدم بوضوح كبير للمتطرفين اليمينيين في حكومة نتنياهو خريطة طريق واضحة لفعل الشيء نفسه في القدس والضفة الغربية.
يأتي هذا الرد الإسرائيلي على هجوم حماس نتيجة الغضب العام، وهو ما جعله يثير، حتى الآن، ترحيبا سياسي من القادة في الداخل وحول العالم. لكنّ هناك القليل من الأدلة على أن أيا من هؤلاء السياسيين قد فكر بجدية في الآثار المحتملة للحرب في غزة أو في الضفة الغربية أو في المنطقة الأوسع. كما لا توجد أي علامة على تأمل جدي في طبيعية نهاية اللعبة في غزة بمجرد بدء القتال. والأقل من كل شيء هو وجود أي علامة على التفكير في الآثار الأخلاقية والقانونية المترتبة على العقاب الجماعي للمدنيين في غزة، والدمار الإنساني الحتمي القادم.
سوف يكون غزو غزة نفسه محاطا بعدم اليقين. من المؤكد أن حماس توقعت مثل هذا الرد الإسرائيلي، وأنها مستعدة جيدًا لخوض تمرد حضري طويل الأمد ضد تقدم القوات الإسرائيلية. ومن المرجح أنها تأمل في إلحاق خسائر كبيرة بالجيش الذي لم يشارك في مثل هذا القتال منذ سنوات عديدة. (تقتصر التجارب العسكرية الإسرائيلية الأخيرة على عمليات أحادية الجانب إلى حد كبير، مثل الهجوم الذي وقع في تموز (يوليو) على مخيم جنين للاجئين في الضفة الغربية). وقد أشارت حماس بالفعل إلى خطط مروعة لاستخدام رهائنها كرادع ضد الأعمال الإسرائيلية. ويمكن أن تحقق إسرائيل نصرًا سريعًا، ولكن يبدو أن هذا لن يكون مرجحًا؛ سوف تأتي التحركات التي قد تسرِّع حملة البلاد، مثل قصف المدن وتسويتها بالأرض وإخلاء الشمال من سكانه، بتكاليف كبيرة على السمعة. وكلما طال أمد الحرب، تعرض العالم للقصف بصور القتلى والجرحى من الإسرائيليين والفلسطينيين، وزادت الفرص لوقوع أحداث مدمرة غير متوقعة.
ليس لسكان غزة مكان يذهبون إليه
حتى لو نجحت إسرائيل في الإطاحة بحماس، فإنها ستواجه التحدي المتمثل في حكم الأراضي التي تخلت عنها في العام 2005، والتي حوصرت بعد ذلك وقُصفت بلا رحمة في السنوات التي مرت منذ ذلك الحين. لن يرحب شباب غزة بالجيش الإسرائيلي كمحرِّرين. ولن تكون هناك زهور وحلوى قيد العرض. وسيكون أفضل سيناريو لإسرائيل هو مكافحة تمرد مطوّلة في بيئة معادية بشكل فريد، حيث لدى إسرائيل تاريخ من الفشل وحيث لم يتبق للناس في غزة ما يخسرونه.
وفي سيناريو أسوأ الحالات، لن يبقى الصراع محصورًا في غزة. فلسوء الحظ، يبدو حدوث مثل هذا التوسع مرجحًا. سوف يولّد الغزو المطول لغزة ضغوطًا هائلة في الضفة الغربية، والتي قد لا تكون السلطة الفلسطينية، بقيادة الرئيس محمود عباس، قادرة على احتوائها -أو ربما غير راغبة في احتوائها. خلال العام الماضي، أدى التعدي الإسرائيلي المستمر على أراضي الضفة الغربية، والاستفزازات العنيفة التي يقوم بها المستوطنون، إلى زيادة غليان غضب الفلسطينيين وتعميق إحباطهم. ويمكن لغزو غزة أن يدفع فلسطينيي الضفة الغربية إلى حافة الهاوية.
على الرغم من الغضب الإسرائيلي الساحق من نتنياهو بسبب الفشل الاستراتيجي غير المسبوق تقريباً لحكومته، ساعد زعيم المعارضة، بيني غانتس، في حل مشاكل نتنياهو السياسية الرئيسية من دون أي تكلفة واضحة من خلال الانضمام إلى حكومة الوحدة الوطنية الحربية من دون إزالة المتطرفين اليمينيين، إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، منها. وهذا القرار مهم لأنه يشير إلى أن الاستفزازات في الضفة الغربية والقدس، التي قادها بن غفير وسموتريش في العام الماضي، ستستمر فقط في هذه البيئة غير المستقرة. بل إنها ربما تتسارع في الواقع، حيث تسعى الحركة الاستيطانية إلى الاستفادة من هذه اللحظة لمحاولة ضم بعض أو كل الضفة الغربية وتهجير سكانها الفلسطينيين. ولا شيء يمكن أن يكون أكثر خطورة من هذا.
سوف تكون لصراع جدّي ينشب في الضفة الغربية -سواء في شكل انتفاضة جديدة أو استيلاء المستوطنين الإسرائيليين على أراض- إلى جانب إلحاق الدمار بغزة، تداعيات هائلة. سيكون من شأن ذلك أن يكشف الحقيقة القاتمة لواقع الدولة الواحدة في إسرائيل إلى درجة لا يستطيع معها حتى آخر المتعصبين إنكار ذلك. ويمكن أن يؤدي مثل هذا الصراع إلى نزوح قسري فلسطيني آخر، أو موجة جديدة من اللاجئين الذين يتم الإلقاء بهم إلى الأردن ولبنان المثقلين بالأعباء بشكل خطير مسبقًا، أو الذين تحتويهم مصر قسرًا في جيوب في شبه جزيرة سيناء.
خارج المتوقع
يتميز القادة العرب بأنهم واقعيون بطبيعتهم، منشغلون بهاجس بقائهم وبمصالحهم الوطنية الخاصة. ولا أحد يتوقع منهم أن يضحوا من أجل فلسطين، وهو افتراض قاد السياسة الأميركية والإسرائيلية في عهد كل من الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب والرئيس الأميركي الحالي جو بايدن. لكنّ هناك حدودًا لقدرتهم على الوقوف في وجه الجماهير التي تجري تعبئتها بشراسة، وخاصة عندما يتعلق الأمر بفلسطين. ربما تقوم المملكة العربية السعودية بتطبيع العلاقات مع إسرائيل، هذا الهوس الغريب لإدارة بايدن، عندما تكون هناك تكاليف سياسية قليلة للقيام بذلك. لكنّ من غير المرجح أن تفعل ذلك عندما يتعرض الجمهور العربي للقصف بصور مروعة من فلسطين.
في السنوات الماضية، سمح القادة العرب بشكل روتيني بالاحتجاجات المناهضة لإسرائيل كوسيلة للتنفيس عن الزخم الجماهيري، وتحويل الغضب الشعبي نحو عدو خارجي لتجنب انتقاد سجلاتهم الكئيبة. ومن المرجح أن يفعلوا ذلك مرة أخرى، مما يدفع المتشائمين إلى التلويح بالمسيرات الجماهيرية وكتابة مقالات الرأي الغاضبة. لكن الانتفاضات العربية في العام 2011 أثبتت بشكل قاطع لا جدال ليه مدى سهولة وسرعة تصاعد الاحتجاجات من شيء محلي قابل للاحتواء إلى موجة إقليمية قادرة على الإطاحة بالأنظمة الاستبدادية التي حكمت لفترة طويلة. ولن يحتاج القادة العرب إلى تذكيرهم بأن السماح للمواطنين بالنزول إلى الشوارع بأعداد هائلة يهدد سلطتهم. وهم لن يرغبوا في أن ينظر إليهم على أنهم يقفون إلى جانب إسرائيل.
سوف يكون ترددهم، في هذا المناخ، في التقرب من إسرائيل ليس مجرد مسألة بقاء النظام. تسعى الأنظمة العربية إلى تحقيق مصالحها عبر مجالات متعددة، إقليميًا وعالميًا، وكذلك في الداخل. ويمكن للقادة الطموحين الذين يسعون إلى توسيع نفوذهم وادعاء قيادة العالم العربي قراءة الرياح السائدة. وقد كشفت السنوات القليلة الماضية بالفعل عن مدى استعداد القوى الإقليمية، مثل المملكة العربية السعودية وتركيا، لتحدي الولايات المتحدة بشأن قضاياها الأكثر أهمية: التحوط بشأن غزو روسيا لأوكرانيا، والحفاظ على أسعار النفط مرتفعة، وبناء علاقات أقوى مع الصين. وتشير هذه القرارات إلى أنه لا ينبغي لواشنطن أن تأخذ استمرار ولاءاتهم كأمر مسلم به، خاصة إذا كان يُنظر إلى المسؤولين الأميركيين على أنهم يدعمون بشكل لا لبس فيه الأعمال الإسرائيلية المتطرفة في فلسطين.
سوف يكون النأي العربي بالنفس بعيدًا كل البعد عن أن يكون التحول الإقليمي الوحيد الذي تخاطر به الولايات المتحدة إذا استمرت في هذا المسار. وهو بعيد عن العنصر الأكثر إثارة للرعب: يمكن أيضًا أن ينجر حزب الله بسهولة إلى الحرب. وحتى الآن، قامت المنظمة بمعايرة ردها بعناية لتجنب الاستفزاز. لكنّ غزو غزة قد يكون خطا أحمر من شأنه أن يجبر حزب الله على التحرك. ومن شبه المؤكد أن التصعيد في الضفة الغربية والقدس سيكون كذلك. وقد سعت الولايات المتحدة وإسرائيل إلى ردع حزب الله عن الدخول في القتال، لكن مثل هذه التهديدات لن تذهب بعيدًا إذا استمر الجيش الإسرائيلي في التصعيد. وإذا دخل حزب الله المعركة بترسانته الهائلة من الصواريخ، فستواجه إسرائيل أول حرب على جبهتين منذ نصف قرن. وسيكون مثل هذا الوضع سيئًا -وليس لإسرائيل فحسب. وليس من الواضح ما إذا كان لبنان، الذي تدهورت أحواله مُسبقًا بسبب انفجار المرفأ العام الماضي والانهيار الاقتصادي، يمكن أن ينجو من حملة قصف انتقامية إسرائيلية أخرى.
يبدو أن بعض السياسيين والنقاد الأميركيين والإسرائيليين يرحبون باندلاع حرب أوسع نطاقًا. وعلى وجه الخصوص، كان هؤلاء يدعون إلى شن هجوم على إيران. وعلى الرغم من أن معظم أولئك الذين يدعون إلى قصف إيران قد اتخذوا هذا الموقف على مدى سنوات، إلا أن المزاعم عن وجود دور إيراني في الهجوم الأخير لحماس يمكن أن توسع تحالف أولئك الذين يرغبون في بدء صراع مع طهران.
لكن توسيع الحرب لتشمل إيران سوف ينطوي على مخاطر هائلة، ليس فقط في شكل انتقام إيراني ضد إسرائيل، ولكن أيضًا في الهجمات ضد شحن النفط في الخليج، والتصعيد المحتمل عبر العراق واليمن والجبهات الأخرى التي يحتفظ فيها حلفاء إيران بنفوذ. وقد أدى إدراك هذه المخاطر والاعتراف بها حتى الآن إلى تقييد حتى أكثر صقور إيران حماسًا، كما كان الحال عندما اختار ترامب عدم الانتقام للهجوم على مصافي بقيق السعودية في العام 2019. وحتى اليوم، يشير التدفق المستمر للتسريبات من المسؤولين الأميركيين والإسرائيليين الذين يقللون من دور إيران في هجوم حماس إلى وجود مصلحة في تجنب التصعيد. ولكن، على الرغم من تلك الجهود، فإن الديناميات التي تنتجها حرب مطوّلة لا يمكن التنبؤ بها على الإطلاق. وفي الحقيقة، نادرًا ما كان العالم أقرب إلى الكارثة مما هو الآن.
الجرائم جرائم
إن أولئك الذين يحثون إسرائيل على غزو غزة بأهداف متطرفة إنما يدفعون حليفتهم إلى كارثة استراتيجية وسياسية. سوف تكون التكاليف المحتملة مرتفعة بشكل غير عادي، سواء تم حسابها من حيث الوفيات الإسرائيلية والفلسطينية، أو احتمال تكوُّن مستنقع مطوَّل، أو بالتهجير الجماعي للفلسطينيين. كما أن خطر انتشار الصراع كبير بشكل مثير للقلق، لا سيما في الضفة الغربية ولبنان، وإنما مع احتمال أن يكون أوسع بكثير. وسوف تكون المكاسب المحتملة -بخلاف تلبية مطالب الانتقام- منخفضة بشكل ملحوظ. ولم يكن هناك، منذ الغزو الأميركي للعراق، مثل هذا الوضوح المسبق بشأن الفشل الذريع القادم.
كما أن القضايا الأخلاقية لم تكن بهذا القدر من الوضوح. ليس هناك شك في أن حماس ارتكبت جرائم حرب خطيرة في هجماتها الوحشية على المواطنين الإسرائيليين، ويجب محاسبتها. ولكنُ ليس هناك أي شك أيضًا في أن العقاب الجماعي لغزة، من خلال الحصار والقصف والتشريد القسري لسكانها، يمثل جرائم حرب خطيرة. وهنا أيضًا، ينبغي أن تكون هناك مساءلة، أو الأفضل من ذلك، احترام للقانون الدولي.
وعلى الرغم من أن هذه القواعد الأخلاقية قد لا تزعج القادة الإسرائيليين، إلا أنها تشكل تحديًا استراتيجيًا كبيرًا للولايات المتحدة عندما يتعلق الأمر بأولوياتها العليا الأخرى. من الصعب التوفيق بين تعزيز الولايات المتحدة للمعايير الدولية وقوانين الحرب دفاعًا عن أوكرانيا من الغزو الروسي الوحشي، وتجاهلها المتعجرف لنفس المعايير في غزة. وسوف تلاحظ ذلك دول وشعوب الجنوب العالمي الأبعد كثيرًا من الشرق الأوسط.
لقد أوضحت إدارة بايدن بطريقة لا تقبل الشك أنها تدعم إسرائيل في ردها على هجوم حماس. لكنّ الآن هو الوقت المناسب لأن تستخدم قوة تلك العلاقة لمنع إسرائيل من التسبب بكارثة هائلة. إن نهج واشنطن الحالي يشجع إسرائيل على شن حرب خاطئة للغاية، واعدةً بتوفير الحماية من عواقبها من خلال ردع الآخرين في الإقليم عن دخول المعركة وعرقلة أي جهود لفرض المساءلة من خلال القانون الدولي. لكن الولايات المتحدة تفعل ذلك على حساب مكانتها العالمية ومصالحها الإقليمية الخاصة. وفي حال اتخذ الغزو الإسرائيلي لغزة مساره الأكثر احتمالاً، بكل مذابحه وتصعيده، فإن إدارة بايدن ستندم على خياراتها.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: An Invasion of Gaza Would Be a Disaster for Israel
*مارك لينش Marc Lynch: هو أستاذ العلوم السياسية والشؤون الدولية في جامعة جورج واشنطن، حيث يشغل أيضا منصب مدير كل من معهد دراسات الشرق الأوسط وبرنامج دراسات الشرق الأوسط. وهو أيضا زميل أقدم غير مقيم في “مركز الأمن الأميركي الجديد”، وهو عضو في هيئة تحرير PS Political Science & Politics. يكتب أيضًا مدونة لمجلة “فورين بوليسي”. حصل على درجة البكالوريوس من جامعة ديوك، ودرجتي الماجستير والدكتوراه من جامعة كورنيل.
اشتهر بصياغة مصطلح ”الربيع العربي” في مقال للمجلة السياسية الأميركية “فورين بوليسي”.
مارك لينش – (فورين أفيرز)